نفطيّات: عندما تلتقي تكنولوجيا النفط مع تكنولوجيا المواصلات (الحلقة الخامسة)
دروس من تاريخ صناعة النفط
أنس بن فيصل الحجي
الحلقة الخامسة
أسهمت عدّة أسباب في تفتيت إمبراطورية (روكفلر) النفطية، ذُكر اثنان منها في الحلقة الماضية، واليوم سيكون التّركيزعلى سبب آخر هو: اكتشاف محرّك الاحتراق الداخلي.
3- اكتشاف محرّك الاحتراق الداخلي، وتبنّي البنزين كوقود
مع بداية تسويق محرّك “بنز” للسيارات الذي يعمل بالبنزين، في عام 1888، ثم محرك “دايملر” فيما بعد، بدأت صناعة النفط العالمية تنحو منحىً جديدًا غيّر مسار الصناعة للأبد. فمع انتشار محرّكات البنزين، وانحسار المحرّكات البخارية، وتعدّد اختراعات المحرّكات وتحسينها، بدأ الطلب على البنزين يتسارع، و بقفزات كبيرة. ثم اندمجت شركتي “بنز” و “دايملر” في عام 1926، وهي الشركة الألمانية التي تنتج سيارات (مرسيدس) حاليا. ويلاحظ هنا أنه لم يكن للألمان دور في الاكتشافات النفطية، إلا أن ما اخترعوه اعتمد على النفط، ونتج عن ذلك أحداث تاريخية هامة، منها قصة اليوم، ومنها الحربين العالمية الأولى والثانية، واللتين تمحورتا حول السيطرة على منابع النفط.
سيارة “بنز” كانت في البداية بثلاثة عجلات، إلا أنها نالت اعجاب الناس وقتها
كما ذُكِر في حلقة سابقة، فإن الطلب على النفط كان مقتصرًا على الكيروسين، والذي كان يمثل حوالي 40% إلى 60% من برميل النفط، بينما يتم التخلص من المواد الباقية، برميها في الأنهار والأراضي الخالية، و كان البنزين مادة مزعجة جدًا للمصافي. مع تزايد مبيعات السيارات، أصبح للبنزين سعر، وأصبح يشكّل موردًا إضافيًا لأصحاب المصافي. هذه الإيرادات الإضافية أعطت دعمًا للشركات المختلفة، وقوة مالية، مكّنتها من الوقوف في وجه شركة “ستاندرد”، وأسهمت في إضعاف قبضة (روكِفِلّر) على الأسواق. وكلما زاد الطلب على البنزين، وتعدّدت أسواقه حول العالم، انتعشت الشركات المنافسة ل (ستاندرد) أكثر. من هنا نجد أن التكنولوجيا أسهمت في تحجيم قوة (روكفلر).
إلّا أن زيادة الطلب على البنزين شكّلت مشكلة كبيرة لمنتجي النفط: بعض نوعيات النفط الخام مناسبة لإنتاج البنزين، وبعضها غير مناسب. وهذه المشكلة سبّبت سباقًا محموماً بين الشركات، للسيطرة على احتياطيات النفط التي يمكن أن تنتج البنزين بكثرة، كما سنرى في الحلقة القادمة، وكما سنرى عندما سيطرت الشركات على منابع النفط في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. ولعل أبرز الأمور هنا أن النفط الروسي في (باكو) كان مناسبا لإنتاج الكيروسين، ولكنه لم يكن مناسبا لإنتاج البنزين، والعكس بالنسبة لنفط (بروناي) الذي تسيطر عليه شركة (شل).
ولعل أهم ما ساعد على انتشار سيارات البنزين في أواخر القرن التاسع عشر على حساب السيارات البخارية، هو فوزها في سباق السيارات في (فرنسا)، نتيجة كون محرّك البنزين أكثر قوة وعملية من المحرّك البخاري، حيث تطلّب المحرّك البخاري وجود شخص مع السائق، لتلقيم الوقود للمحرّك. والدرس الأساس من هذه التجربة له علاقة بما يحدث في أسواق السيارات اليوم: البشرية تتحرك تجاه الوقود الأصغر حجماً، والأكثر كثافة، والأسرع، والأخف، والأرخص. هذا الدرس مهم جدًا في تقويم مصادر الوقود المختلفة، وبالذات وقود السيارات. وهذه المعايير توضّح أن الخيارالكهربائي ليس الخيار الأمثل حاليًا.
وعلينا أن نتذكر ماذكر سابقا: أنه لم يكن للبنزين أي قيمة وقتها حيث كان مزعجأ للمصافي وكان يرمى في الأنهار. هذا يعني أن التحول عن الحصان والعربة كان مدفوعا بعوامل اقتصادية متعددة، منها وفرة البنزين الذي لاقيمة له. وهذا لا ينطبق الآن على التحول إلى السيارات الكهربائية لأنه للكهرباء ثمن، وقد يكون باهظاً في بعض الأماكن.
وإذا كان توافر البنزين ورخصه ساعد في انتشار سيارات البنزين، فإنه يمكن التوقع بسهولة لما يمكن أن يحدث إذا أجبرت الحكومات شركات السيارات على إنتاج سيارات كهربائية فقط: انخفاض كبير في الطلب على النفط وبالتالي انخفاض أسعار الوقود مرة أخرى، وينتج عن ذلك تحول السيارات من الكهرباء إلى البنزين!
خلاصة الأمر أن القول بأن التحول للسيارة الكهربائية سيكون مماثلا للتحول من الحصان والعربة إلى السيارة التي تعمل بالبنزين أو الديزل غير صحيح لأن القيمة المضافة من التحول من الحصان إلى السيارة لا تقدر بثمن، بينما القيمة المضافة من التحول من السيارات الحالية إلى السيارات الكهربائية بسيطة. ونفس القول ينطبق على مقارنة تبني السيارات الكهربائية بتبني الهواتف الذكية. فالقيمة المضافة للهواتف الذكية مقارنة بالتلفونات الأرضية لاتقدر بثمن، بينما القيمة المضافة من السيارات الكهربائية محدود
وبما أن الحديث اليوم كان عن “البنزين”، أترككم مع هذا المقال:
لنحترم البنزين
Comment