لنحترم “البنزين”…
نشر هذا المقال في يونيو 2009 في جريدة الاقتصادية
ذكرت في مقالات سابقة أن من ميزات الكتابة في مجال النفط أن التاريخ يكرر نفسه، لذلك فإنه من المنطقي أن تتكرر المقالات نفسها، خاصة إذا كتبت بطريقة عامة تجعل تاريخ كتابة المقال غير مهم. وقد نشرت “الاقتصادية” في الفترة الأخيرة عدداً من المقالات تتعلق بموضوع إعانات الوقود بشكل عام والبنزين بشكل خاص. ولن أخوض في تفاصيل الموضوع, حيث إن رأيي في هذا المجال معروف منذ زمن بعيد ويلخصه مقال قديم بعنوان “درس من عام 2005: حرروا أسعار البنزين”، ثم سلسلة مقالات عن التدخل الحكومي في الشهور الأخيرة. وبغض النظر عن موقفي من الإعانات فإنني مقتنع تماما بأن الإعانات هي ظاهرة لمشكلة، وأن المشكلة في الأصل هي مشكلة “احترام”، ومن هنا جاء عنوان المقال التالي الذي نشرته “الاقتصادية” منذ أكثر من عام ونصف بعنوان “لنحترم البنزين”.
لو أدرك الشعراء دور البنزين في حياتنا، لامتلأت جدران مضخات البنزين بالشِعر. ولو أدرك الأدباء خصائص البنزين، لأصبح بطل القصص والروايات. لو عرفنا أن عالمنا يدور في فلك البنزين، لاحترمناه بالشكل الذي يستحقه فالبنزين، في النهاية، من الشمس لأن أصل النفط هو طاقة خزنتها النباتات من تعرضها للشمس (عملية التمثيل الضوئي)، ثم تحولت بعد موتها واندثارها تحت ضغوط وحرارة معينة إلى نفط، وبعملية تحليل مبدأها تسخين النفط، حصلنا على البنزين. من هذا المنطلق يمكننا القول إن سياراتنا تسير على الطاقة الشمسية، ولكنها طاقة أرسلتها الشمس منذ ملايين السنين!
لو أدركنا ما يقوم به البنزين لأحببناه وأشفقنا عليه من الاحتراق، ولكنه مُنتَج “شهم” و”نبيل” يأبى إلا أن يقوم بدوره حتى يختفي من الوجود .. قطرة .. قطرة! البنزين، رغم ضعفه الظاهري، إلا أنه قوي لدرجة رهيبة. فهو يحرك محركا ضخما حتى في أشد الأجواء برودة، ثم يُحَمّي ذلك المحرك، ثم يحركه بسهولة وليونة تحت ظروف مختلفة، دون قرقعة في المحرك، أو تخريب، أو خدش أو انفجار. البنزين الحالي لا يُخلّف أيّ ترسبات في المحرك، ولا يؤدي إلى تآكل المعادن، ولا يلوث نظام الوقود. البنزين “يتأقلم” مع أي سيارة، مع أي محرك، والأعجب من ذلك كله أنه يتأقلم مع كل سائق مهما كان عرقه أو لونه أو دينه، لا فرق عنده بين رجل وامرأة، أو صبي أو شيخ كبير! لكنه ينسى من ينساه وينتقم منه بإيقافه بطريقة مهينة على قارعة الطريق.
مع تطور السيارات، والحاجة إلى سيارات أكبر وأقوى، تمت زيادة “الأوكتان” في البنزين، كما تمت إضافة الرصاص لتحسين أداء البنزين. مع مرور الزمن تم التخلص من الرصاص لأضراره البيئية، وتم رفع الأوكتان، كما تمت إضافة مواد أخرى لأسباب بيئية وفنية. وكم كنت أتمنى أن تكون قابليتنا التأقلم مع الآخرين مثل قابلية البنزين التأقلم…مع كل ما يضاف إليه!
البنزين… أرخص السوائل!
لو قَيّمنا البنزين حسب صفاته والخدمات التي يقدمها لنا لكان سعره أضعاف سعر الحالي .. في شتى أنحاء العالم. وإذا نظرنا إلى أسعار البنزين في السعودية لوجدنا أنه أرخص سائل نستخدمه بشكل يومي. الأنكى من ذلك كله أنه لو نظرنا إلى الخدمات التي يقدمها لنا البنزين والتكنولوجيا المتقدمة والمعقدة للحصول عليه من جهة، وقارناها بخدمات وتكنولوجيا صناعة البيبسي والقهوة من جهة أخرى، لاكتشفنا أنه أرخص منهما بكثير. إنها تضحية… ما بعدها تضحية، خاصة في ظل الإعانات الضخمة التي تقدمها الحكومة للبنزين والمشتقات النفطية الأخرى.
ولكن حتى لو نظرنا إلى أسعار البنزين في الأسواق الحرة، مثل الأسواق الأمريكية التي تتغير فيها أسعار البنزين عدة مرات في اليوم، لوجدنا أن أسعار البنزين، رغم كل الضرائب المفروضة عليه، ما زالت من أرخص أسعار السوائل التي يستخدمها الفرد الأمريكي بشكل يومي، ما زال سعر جالون البنزين نحو ثلث سعر جالون البيبسي أو الكوكا كولا، حتى مع بلوغ أسعار النفط 100 دولار للبرميل.
مشكلة الإعانات
تقوم أغلب الدول الخليجية بدعم أسعار البنزين، الأمر الذي جعل أسعار البنزين في المنطقة من الأرخص في العالم. المشكلة أنه لا يمكن لهذا الدعم أن يستمر لسنين طويلة، وسيأتي اليوم الذي ستنفجر فيه “فقاعة” الدعم. إن مشكلة الفرد الخليجي بشكل عام، والسعودي بشكل خاص، أنه يتصور أن الحكومة مسؤولة عن كل شيء، وأنها يجب أن تستمر في دعم البنزين، بغض النظر عن تصرف الأفراد. إن المنطق يقتضي أنه إذا طالب الشخص باستمرار دعم البنزين أن تقوم الحكومة بالتدخل لتحديد أنواع السيارات التي تدخل البلد، ولكن لا يمكن استمرار الدعم في وقت يقوم فيه المستهلك بشراء السيارة التي يريد.
قد يحتج البعض، وسينزعجون من اقتراح تخفيف إعانات البنزين، بحجة الفقراء وأصحاب الدخل المحدود والتضخم. لكن لننظر حولنا لنرى أن الأكثر استفادة من إعانات البنزين هم الأغنياء الذين يملكون عدة سيارات كبيرة وفخمة .. يجمع بينها العطش الرهيب للبنزين! المنطق يقتضي ألا يشتكي من يختار شراء سيارة مشهورة باستهلاكها البنزين من تخفيض إعانات البنزين، خاصة إذا كانت السيارة لا تستخدم في نقل العائلات، وإنما في نقل شخص واحد فقط. المنطق يقتضي ألا يشتكي من يقود السيارة بسرعة جنونية من تخفيض الإعانات ورفع أسعار البنزين لأن هناك علاقة طردية بين استهلاك البنزين والسرعة. المنطق يقتضي ألا يشتكي من يختار بناء بيته في مكان يبعد عشرات الكيلو مترات عن مقر عمله.
وما يغيظني فعلاً هو تذمر كثيرين من كلامي عن تخفيض إعانات البنزين، ولكنهم لا يتذمرون من ارتفاع أسعار الفنادق التي يذهبون إليها عندما يسافرون خارج السعودية، علما أنه بعملية حسابية بسيطة اكتشفت أن نسبة الزيادة في أسعار الفنادق في الفترات الأخيرة، تفوق نسبة الإعانات، وأن تكاليف ليلة واحدة في أحد فنادق دبي الفخمة أعلى من متوسط ما ينفقه الفرد السعودي على بنزين سيارته خلال سنة كاملة!
خلاصة القول، إذا نظرنا إلى “عُمر” البنزين” (كونه نفطا مر عليه ملايين السنين) لاحترمناه. إذا نظرنا إلى “أخلاقه الحميدة” المتمثلة في “قدرته على التأقلم” و”العمل بصمت” و”أداء الواجب على أكمل وجه” و”التضحية بالنفس” لزاد احترامنا له. البنزين أغلى من أن يحرق في سيارات كبيرة ليس فيها إلا شخص واحد، البنزين أغلى من أن يحرق في سرعات جنونية، والبنزين أغلى من أن يحرق يوميا بسبب بعد المسكن عن العمل.
من موقع أرقام
http://gulf.argaam.com/article/articledetail/111657
من جريدة الاقتصادية
http://www.aleqt.com/2009/06/15/article_240677.html
اعتقد يا دكتور انس ان المشكلة مشكلة ترشيد وليست “احترام” ،
“ان الله لا يحب المبدرين ”
ادا كانت النرويج تطوت قبل اكتشاف النفط ، فعلى الدول العربية ان تطور نفسها داخل مجال النفط و مشتقاته بشكل افقي,
دكتور انس سوالي هو : هل فاتنا القطار ؟!