هل تجبر معادلة النفط الدولية الأمريكيين على توحيد العراق؟
تعليق على تقرير بيكر- هاملتون (3 من 3)
نشر في جريدة “الاقتصادية” منذ سنوات، وقبل ثورة الصخري التي قلبت الموازين رأسا على عقب.
الأكراد والنفط
انزعج الأكراد من التقرير. ولكن الواقع أن انزعاج الأكراد لا يمكن تسويغه بشكل منطقي إلا إذا كان الأكراد يحاولون استغلال الموقف لتعزيز مواقفهم في المفاوضات مع الأمريكيين. فالواقع يشير إلى أن الاستقلال والنفط بديلان لا يجتمعان. فكردستان إقليم مغلق لا يشرف على أي منفذ بحري وتحيط به دول معادية للأكراد. هذا يعني أنه لا يمكن الاستفادة من النفط الموجود في هذا الإقليم إلا عن طريق ضخه بأنابيب عبر دول مجاورة. المشكلة أن كل هذه الدول، بما في ذلك دولة سنية في وسط العراق، تعادي بشدة استقلال كردستان. من هذا المنطلق، فإن مصلحة الأكراد والدول الصناعية تقتضي أن يبقى الإقليم ضمن العراق، وأن تبقى أمور النفط تحت سيطرة حكومة مركزية قوية تقوم بتوزيع عوائد النفط بشكل عادل على الأقاليم المختلفة.
من هذا المنطلق أكد التقرير على ضرورة وجود حكومة مركزية قوية تسيطر على قطاع النفط في الأقاليم كافة. المشكلة أن هذه التوصية جاءت ضعيفة في وقت كان يجب أن تكون من أهم التوصيات وأقواها. إن استقلال كردستان يعني عدم قدرتها على بيع النفط، وبالتالي ستبقى دول ضعيفة وفقيرة. لن تتمكن دولة كردية من تصدير النفط من كركوك، رغم وجود خط الأنابيب الواصل بين ميناء كركوك وميناء جيهان في تركيا. وسيواجه الأكراد إذا انفصلوا مشاكل عديدة أهمها أن العديد من الفئات ستقوم بنسف أنبوب النفط لمنع الأكراد من الاستفادة منه، وهو الأمر الذي تكرر عشرات المرات منذ الاجتياح الأمريكي للعراق. إذا لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية بقوتها وعتادها وأموالها من تصدير النفط من كركوك حتى الآن، فكيف لدولة كردية ضعيفة أن تقوم بذلك؟
سيواجه الأكراد مشكلة أخلاقية كبيرة، حتى لو سمح لهم ضمن معادلة عالمية ما بتصدير النفط عبر خط الأنابيب التركي، وهي أن المدفوعات التي تحصل عليها تركيا من خط الأنابيب ستذهب لتسليح الجيش التركي الذي يقتل ويشرد إخوانهم الأكراد يومياً في تركيا. لا يتوقع أن توافق سورية على وجود دولة كردية بجوارها لما في ذلك من أثر على المناطق الكردية في سورية، لذلك لا يتوقع أن تقوم سورية بالسماح لدولة كردية بتصدير النفط عبر أراضيها. وسيجد الأكراد صعوبة ضخمة في تمويل العمليات النفطية لرفض الشركات العالمية العمل في منطقة غير مستقرة سياسياً. وتشير بيانات الحقول في كركوك أنها تحتاج إلى عمليات ترميم وإصلاح تتجاوز تكلفتها مليارات الدولارات، والتي لا يمكن حتى لحكومة عراقية مستقرة أن تقوم بها، فكيف يمكن لدولة كردية صغيرة وفقيرة وغير مستقرة سياسياً القيام بذلك؟ إذا كان هناك دور للنفط في رسم حدود الدول، فإنه يمكن القول إن معادلة النفط الدولية تطلبت وجود جنوب السودان ضمن السودان، وجنوب السودان منطقة مثل كردستان العراقية، مغلقة تماماً ولا تشرف على بحر. باستخدام المنطق نفسه يتضح أن معادلة النفط الدولية تتطلب وجود كردستان ضمن العراق، بصيغة أو بأخرى، وهذا ما أشار إليه التقرير بشكل مباشر وغير مباشر.
تخصيص النفط العراقي
على خلاف ما ذكرته بعض وسائل الإعلام وبعض الكتاب فإن التقرير لم يدع حكومة بوش أو الحكومة العراقية إلى تخصيص النفط العراقي. ويعود هذا الخلط في وسائل الإعلام إلى جملة تؤكد ضرورة إدارة شركات النفط في العراق وفقاً لقواعد تجارية بحتة. وهذا لا يعني التخصيص وإنما يعني استقلال شركات النفط الوطنية عن الحكومة تماماً كما هي الحال مع “أرامكو السعودية” وشركة النفط الكويتية. إن الذين يتكلمون عن وجوب تخصيص صناعة النفط العراقية، بما في ذلك الاحتياطيات النفطية، يتجاهلون سؤالاً جوهرياً يشكل جوابه لب الموضوع: لماذا قام العراق بتأميم احتياطيات النفط في بداية السبعينيات؟ إن دراسة تاريخ النفط في كل من إيران والعراق بين عامي 1911 و1972 تفيد أن هناك عوامل اقتصادية وسياسية وقانونية وفكرية ودينية أسهمت في تأميم النفط. كما تثبت أنه لا يمكن تجاهل هذه العوامل بسهولة بمجرد احتلال الولايات المتحدة للعراق. إن هذه العوامل تمثل الواقع العراقي، بينما فكرة التخصيص فكرة مربوطة بالاستعمار الذي يحمل اسم “احتلال” حسب القانون الدولي. إن مجرد مقارنة “الواقع” بـ “الاحتلال” توحي بمصير أي تخصيص يمكن أن يقوم به “المحتل”. لكن ماذا عن التخصيص بعد خروج القوات الأمريكية؟ إن الواقع العراقي يشير إلى استحالة تخصيص الاحتياطيات النفطية، ولكن قد يتم تخصيص الشركات العاملة وشركات النقل والتوزيع.
لقد تجاهل تقرير بيكر-هاميلتون حقيقة مهمة وهي أن وجود حكومة ديمقراطية في العراق سيجعل حصول شركات النفط الأجنبية على عقود مجزية صعباً للغاية.
إن شركات النفط الأجنبية تحصل على عقود مغرية في ظل أنظمة الديكتاتورية والعنف والفساد الإداري كما يحصل في عدد من الدول الإفريقية، وكما حصل في روسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، ولكن لا يمكن لهذه الشركات أن تحقق أرباحاً عالية في ظل حكومة ديمقراطية. لهذا فإن الاستثمار في الحقول العراقية ليس جذاباَ كما يعتقد البعض. لهذا نجد أن الشركات النفطية التي تحاول الاستثمار في العراق هي شركات مغمورة، وبعضها برأسمال عربي مسجل في دول أجنبية.
خلاصة الأمر أن إدارة بوش أحسنت صنعاً عندما قررت توسيع دائرة الحوار وشمل عددا أكبر من الفئات والخبراء ولم تقتصر على تقرير بيكر ـ هاميلتون، وإن كان هذا القرار يعود لأسباب قد لا تكون وجيهة. ويبدو من الحوارات التي جرت أخيرا أن هناك اتفاقاً بين المتخصصين كافة على فكرتين وردتا في التقرير هما ضرورة وجود حكومة مركزية قوية وأن زيادة إنتاج النفط العراقي بالكميات التي تدعيها الحكومة العراقية الحالية لا يمكن أن تتحقق. إن أهم فائدة لتقرير بيكر-هاميلتون هي أن انزعاج الجميع فتح الحوار على مصراعيه، الأمر الذي أدى إلى “فورة” في عدة مراكز بحثية سينتج عنها المزيد من التقارير التي سينشر أغلبها في ربيع العام المقبل. ولعل الفائدة الأخرى هي التذكير بضرورة وجود حكومة مركزية قوية لضمان تدفق النفط من منطقة الخليج. هذا يعني أن الأكراد لن يستفيدوا من النفط إذا استقلوا في كردستان العراقية. فإذا كانت حقول النفط ترسم حدود الدول النفطية، فهل يجبر النفط الأمريكيين على توحيد العراق؟
Comment