نفطيّات: قناة السويس تهدد إمبراطورية روكِفِلّر (الحلقة الرابعة)
دروس من تاريخ صناعة النفط
أنس بن فيصل الحجي
الحلقة الرابعة
عرفنا في الحلقة الماضية كيف سيطرت شركة (ستاندرد أويل) على صناعة النفط الأمريكية والدولية، وبلغت سيطرتها حدوداً غير مسبوقة في التاريخ، الأمر الذي جعل مالكها (جون روكفلر) أغنى رجل على وجه الأرض وقتها، وأغنى رجل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. وساعدها على ذلك قدرتها الكبيرة على تجزئة السوق، والسيطرة الكاملة على كل جزء. فإذا ظهر لها منافس في سوق ما، فإنها تُغرق ذلك السوق فقط بالكيروسين، بحيث تنخفض الأسعار بشكل كبير، دون التأثير على الأسواق الأخرى، الأمر الذي يجبر المنافس على الإفلاس، أو بيع شركته لـ (ستاندرد).
رغم المال والدعم السياسي، إلا أن أكبر مهدّد للمحتكر هو الأفكار الجديدة والتكنولوجيا، خاصة أنه لايسيطر على أي منهما. وفي هذه الحلقة سيتم شرح دور الأفكار الجديدة والتكنولوجيا في إضعاف احتكار شركة (ستاندرد أويل). ولعل هذا هو السبب الذي جعل شركات النفط فيما بعد تشتري أو تستثمر في أي تكنولوجيا منافسة، مهما كانت، وبأي سعر، بعد أن تعلمت درس (ستاندرد) جيدًا.
وفي هذه الحلقة سنقرأ عن تأسيس شركتين نفطيتين جديدتين نافستا (ستاندرد أويل)، ولعبتا دوراً كبيراً في تاريخ الدول النفطية، هما شركة (شل) وشركة (رويال دتش)، اللتان اندمجتا فيما بعد، وتشكّلان الآن شركة (شل) المعروفة. كما سنتعرّف على دور عائلة (روثتشايلد) المعروفة في صناعة النفط. العجيب في الأمر، أن كلا الشركتين وعائلة (روثتشايلد) وجدوا أنفسهم في معمعة النفط فجأة، وعن طريق الصدفة، ودون تخطيط. فعائلة (روثتشايلد) موّلت شركة بَنَت خط سكة حديد لنقل النفط في (القوقاز)، فأفلست الشركة، وآلت ملكيّتها للعائلة. وشركة (شل) تأسّست بعد أن طلبت عائلة (روثتشايلد) من مؤسّس الشركة “ماركوس سامويل ” التفكير بطريقة لنقل النفط، مع أنه لاعلاقة له بالموضوع على الإطلاق. أما شركة (رويال دتش) فتأسّست من مزارع تبغ هولندي يمارس مهنته في جزيرة (سومطرة الإندونيسية)، بعد اكتشاف النفط بالقرب من مزرعته.
ويمكن إجمال العوامل التي أنهت احتكار (روكفلر) لصناعة النفط، فيما يلي:
- وصول النفط الروسي لآسيا عن طريق قناة السويس
- اكتشاف النفط في (إندونيسيا وبروناي)
- اكتشاف محرك الاحتراق الداخلي، وتبنّي البنزين كوقود
- اكتشاف النفط في (تكساس)، وظهور المنتجين المستقلين
- تدخّل الحكومة الفدرالية، وقرار المحكمة ، بتقسيم شركة (ستاندرد)
وفي حلقة اليوم سيكون التركيز على العاملين الأول والثاني.
التهديد الأول: وصول النفط الروسي لآسيا
بتخطيط محكم، سمحت إدارة قناة السويس لحاملة نفط، تعدّ الأولى من نوعها، من حيث تخصّصها بنقل النفط بشكل آمن، بالمرور في القناة، محمّلة بالكيروسين الروسي في خزّانات ضخمة في بطن السفينة، إلى الأسواق الآسيوية، وذلك في عام 1892م.
الكيروسين تملكه شركة عائلة (روثتشايلد)، والناقلة تملكها عائلة (سامويل) التي أسّست شركة (شل). وكانت عائلة (روثتشايلد) قد مولّت شراء الحكومة البريطانية لأسهم في القناة قبل ذلك بفترة. عائلة (روثتشايلد) ضغطت على الحكومة البريطانية لأنها المموّل، والتي ضغطت بدورها -كونها مالكة لأسهم في القناة- على إدارة القناة، وإدارة القناة طالبت بدورها بشهادة تضمن أمن وسلامة السفينة من شركة (لويد للتأمين) المشهورة، ورئيس الشركة التي بَنَت ناقلة النفط عضو في مجلس إدارة (لويد)!
ذُكرَ في الحلقة الأولى أن النفط اكتُشف في (باكو) في (أذربيجان)، قبل اكتشافه في الولايات المتحدة بكميات تجارية بعدّة سنوات. وكانت المنطقة وقتها تابعة لروسيا القيصرية. كانت آبار النفط حول (باكو) أكثر إنتاجية وغزارة من الآبار الأمريكية، إلا أنه كان من الصعب تسويق منتجاتها بسبب الموقع الجغرافي للمدينة، وإطلالتها على بحر قزوين المغلق. وإيصاله إلى أوروبا مكلف جداً، لأنه يتطلب نقله برًا إلى البحر الأسود، ثم بحراً في البحر الأسود، ثم عدّة أنهار، بينها برّ شاسع، حتى الوصول إلى بحر البلطيق شمالًا، ومنه إلى بريطانيا، أو عبر مضائق مائية من البحر الأسود إلى المتوسط. لهذا لايمكن منافسة سوق شركة (ستاندرد)، التي سيطرت على سوق الكيروسين في أوروبا الغربية.
وكان المنتج الأكبر في (باكو) عائلة (نوبل)، التي كوّنت ثروة ضخمة من إيرادات نفط (باكو)، وهي نفس عائلة (ألفريد نوبل) السويدية الذي اخترع الديناميت، وكفّر عن خطئه بتأسيس (جائزة نوبل).
وكما كانت الحالة في الولايات المتحدة وأنحاء مختلفة من العالم المتحضر وقتها، فإن الطلب الأساس كان على مادة الكيروسين للإضاءة. فتمّ إنشاء مصافٍ لتكرير النفط في (باكو)، كما تمّ إنتاج الكيروسين. ولكن الأسواق محدودة، أغلبها في روسيا. المشكلة أن الإنتاج كان أكبر بكثير من الطلب في روسيا. فقام بعض المستثمرين، وبتمويل من عائلة (روثتشايلد)، ببناء سكة حديد لنقل النفط من بحر قزوين إلى البحر الأسود، بين مدينتي (باكو) في (أذربيجان) و (باتومي) في (جورجيا) بالقرب من الحدود التركية. وأصبح بالإمكان نقل الكيروسين بالسفن عبر عدة مضائق مائية إلى البحر المتوسط، ومنه إلى الموانئ الأوروبية، أو عبر البحر الأسود إلى الموانئ الرومانية. وكلتا المدينتين، وكل المنطقة التي بني فيها خط القطار، كانت جزءاً من روسيا القيصرية وقتها.
الأمر يبدو بسيطًا حسب الوصف أعلاه، إلا أن الأمر كان أعقد من ذلك بكثير. فناقلات النفط كما نعرفها اليوم لم تكن موجودة، وكان الكيروسين يعلّب في علب صفيح، ثم تغلّف، ثم تشحن، فكانت التكلفة عالية جدًا، وتتطلب عمالة ضخمة.
قامت شركة عائلة (نوبل) بتصنيع أول ناقلة نفط في العالم في السويد، وتمّ ملء خزّانيها الكبيرين بالكيروسين، ووصلت إلى لندن مُبحرة في نهر التايمز. إلا أن هذه الناقلة كانت مخيفة جدًا، لأنها محمّلة بمادة سريعة الاشتعال، ويمكن أن تنفجر وتسبب دمارًا كبيرًا. كما عانت من مشكلات عدّة، أهمّها: أن المادة السائلة في داخلها كانت تتمايل مع الأمواج، وتهدد السفينة بالانقلاب على أحد جانبيها، بالإضافة إلى مشكلات أخرى تتعلق بالأبخرة الصادرة من الكيروسين. ونظرًا لأن خطر انفجارها كان كبيرًا،فقد وصلت أخبارها، ومثيلاتها، إلى أصقاع العالم، وكانت قناة سويس قد افتُتحت، فقرّرت إدارة القناة منع هذه السفن من العبور.
وجنّ جنون مسؤولي شركة (ستاندرد) عندما سمعوا خبر وصول السفينة إلى (لندن)، فشنّوا حرب أسعار شعواء على عائلتي (نوبل وروثتشايلد)، أثّرت سلبًا في كل منتجي النفط الروسي. ونتج عن ذلك خضوع عائلة (روثتشايلد) لشروط (روكفلّر)، والقبول بحصة معينة تُسوّق في أوروبا. كانت الكمية أصغر بكثير من كمية النفط التي تتراكم في ميناء (باتومي)، وبالتالي بدأت عائلة (روثتشايلد) بالبحث عن طريقة لتسويق النفط في (آسيا).
توصّلت العائلة إلى (ماركوس سامويل) الذي كان تاجرًا محنّكًا، وله علاقات تجارية عدة في عدة دول آسيوية. وبعد اطّلاعه بشكل مباشر على مايحصل في ميناء (باتومي)، بدأ يفكر بالحل.
(ماركوس وأخوه سام)، من عائلة عراقية يهودية هاجرت إلى بريطانيا، ورثا تجارة والدهما في الصدَفْ، الذي كان يُستخدم كثيرًا بالديكور والتزيين، ثم تطورت تجارته وكبرت، واكتسب خبرات متعددة من سفره المتعدد للتجارة إلى آسيا، خاصة اليابان. من هذه الخلفية، بدأ (ماركوس) يفكر في طريقة لشحن الكيروسين بشكل أرخص. فقد أيقن أن شحنه في خزّانات ضخمة سيخفض التكاليف بشكل كبير، ولكن لايمكن مقارعة شركة (ستاندرد).
ماركوس سامويل (1853-1927)
أدرك (ماركوس) أن الحل في التخلص من منافسة شركة (ستاندارد) هو تصدير النفط الروسي إلى آسيا، ولكن هذا يتطلب أمرين، الأول: بناء سفن أمنة مخصصة لحمل النفط، وبكميات كبيرة، بدلًا من علب الصفيح، والثاني: مرور السفينة من قناة السويس، لأن ذلك سيخفف من مسافة السفر حول أفريقيا مرورًا برأس الرجاء الصالح، حيث إن المرور بقناة السويس يوفر حوالي ثلث المسافة إلى آسيا. إذا استطاع تخفيض التكاليف كما هو متوقع، فإنه يمكن منافسة (ستاندارد)، ودون أيّ تخوّف منها.
إلا أن قناة السويس لاتسمح بمرور ناقلات النفط التي بُنيت في ذلك الوقت، بسبب خطرها، والخوف من اشتعال أو انفجار الكيروسين -كما ذُكر سابقاً-. الحل إذًا هو بناء سفينة تستطيع حمل الكيروسين ونقله بشكل آمن، ثم إقناع إدارة القناة بذلك. وهذا ماحصل: تمّ بناء سفينة بمقاييس جديدة، ثم جرت محاولة إقناع إدارة القناة بها، وعندما رفضت، حصل ما ذُكر أعلاه: رجع (ماركوس) إلى عائلة (روثتشايلد) التي موّلت شراء الحكومة البريطانية لأسهم في القناة، والتي ضغطت بدورها على إدارة القناة. وافقت إدارة القناة على مضض، ولكن وضعت شرطًا صعبًا، وهو موافقة شركة (لويد للتأمين). عندئذٍ لجأ (ماركوس) إلى صاحب الشركة التي بَنَت السفينة، والذي كان عضوًا في مجلس إدارة (لويد)! من يستطيع أن يقول له: إن سفينتك غير آمنة؟ وافقت شركة (لويد)، فردّت إدارة القناة بأنها تحاول دراسة الأمر، ووضع شروط للسفن المحمّلة بالنفط. وبطريقة ما، وُضعت لائحة شروط، اكتُشف فيما بعد أنها مأخوذة من كتيّب معلومات السفينة التي بناها (ماركوس)! بعبارة أخرى: إن حاملة النفط الوحيدة التي يمكنها عبور القناة هي سفينة (ماركوس) فقط، بينما لايمكن لمنافسيه ذلك. قام (ماركوس) ببناء عدّة سفن مماثلة، ولم يعبر القناة إلا حاملاته النفطية! وبالتالي حشر ماركوس شركة (ستاندارد) في الزاوية! وبذلك غيرت قناة السويس هيكل أسواق النفط العالمية للأبد، وحجّمت من طغيان (روكفِلّر) ومجموعته، وخفضت تكاليف الكيروسين في الأسواق الآسيوية.
الشركة التي أسّسها (ماركوس) وأخوه سمّياها (شل) إكراما لأبيهما تاجر الصَدَف، و (شل) تعني بالعربية: (الصَّدَفة). وسُمّيت كل حاملات نفط شركة (شل) بأسماء أنواع مختلفة من الصدف، فقد سمّيت الحاملة الأولى (مورَكس)، وهو نوع مشهور من الصدف. ووصل الكيروسين إلى آسيا بأسعار منافسة، ولم تستطع (ستاندارد) الوقوف في وجهه. ثم تمكّن فيما بعد من الحصول على امتياز عن التنقيب عن النفط في (بروناي)، واكتشف النفط. ووجد مصدرًا أخر للنفط، بعيدًا عن سيطرة (ستاندارد)، وبعيدًا عن (روسيا).
التهديد الثاني
في الوقت الذي عبرت فيه أول ناقلة نفط لقناة السويس، اكتُشف النفط في جزيرة (سومطرة) من قبل مزارع تبغ هولندي، أقنع المستثمرين وأحد البنوك الرئيسة بتمويله، واستطاع صاحب البنك إقناع ملك هولندا وقتها بالفكرة، فأسبغ على الشركة صفة “المَلَكية”، لتصبح “شركة النفط الهولندية الملكية”. تهديد شركة (رويال دتش) لأسواق شركة (ستاندارد) لم يكن من ناحية الكمية فقط، ولكنه جاء من ناحيتين لا تستطيع (ستاندارد) أن تفعل شيئًا حيالهما: نوعية الكيروسين أفضل، وكونه ينتج في (إندونيسيا) يجعل تكاليف نقله للأسواق الآسيوية أرخص بكثير، وبالتالي يمكن أن يباع بأسعار أقل، ويحقق أرباحًا أكثر، بعبارة أخرى، لا تستطيع (ستاندارد) أن تشنّ حرب أسعار بسبب انخفاض تكاليف إنتاج الكيروسين في (إندونيسيا)، وتميّز نوعيّته.
ورغم الصعوبات الكبيرة التي عانت منها شركة (رويال دتش)، إلا أن اعتمادها على طرق جيولوجية جديدة غير شائعة وقتها، مكّنها من اكتشافات جديدة ورفعها إلى مصافّ الشركات الكبيرة. وأدركت قيادتها فيما بعد أن كون الشركة في (آسيا) فإن التهديد الآن ليس شركة (ستاندارد)، وإنما شركة (شل)، وبالتالي، فلابد من التنافس بينهما. فشنّت الشركة حرب أسعار على (شل)، وانتهت حرب الأسعار باندماج شركتي (رويال دتش) و (شل) في عام 1907، إلا أن هناك درسًا مهمًا من عملية الاندماج، ذُكر في حلقة ماضية عند الحديث عن أسباب نجاح (جون روكفِلّر)، وكيف أصبح أغنى رجل في العالم وقتها: الكتمان!
فخلال مفاوضات (شل) مع (رويال دتش)، قرّر (ماركوس سامويل) مؤسّس شركة (شل) النفطية الذهاب إلى (نيويورك)، في محاولة للاتفاق مع شركة (ستاندارد). لم يأبه به مسؤولو (ستاندارد)، ورجع خالي الوفاض، إلا أنهم عرضوا عليه أن يعمل لحسابهم، ضمن اتفاق معيّن، وأعطوه عرضاً، عدّهُ بعض المؤرخين مُهيناً، وطلبوا منه دراسته، والرد عليهم. إلا أن الانطباع لدى مسؤولي شركة (دتش شل) أن (ماركوس) يحاول الاتفاق مع (ستاندارد) ضد (رويال دتش)، وهذا الاتفاق يعني -في النهاية- حرب أسعار تُفلس شركة (رويال دتش). وعرف (ماركوس) هذا الانطباع، ولم يخبرهم بالحقيقة للضغط عليهم، وبالفعل، رضي مسؤولو (رويال داتش) بكل شروط (شل) للتعاون. وقبل التوقيع النهائي، أراد (ماركوس) الانتقام من شركة (ستاندارد)، فأرسل لهم رسالة (تلغراف) يرمي بعرضهم عرض الحائط. وأصبح هذا (التلغراف) خبرًا في الصحف، وعرفت قيادة (رويال دتش) بالموضوع، وانقلب السحر على الساحر، وأصبح موقف (شل) هو الأضعف في المفاوضات.
وكان السبب الرئيس لموافقة شركة (شل) على الاندماج مع (رويال دتش) هو رغبة (ماركوس) في التخلص من الاعتماد على النفط الروسي من جهة، والاعتماد على عائلة (روثتشايلد) من جهة أخرى. لهذا حصلت الشركة على امتياز التنقيب في (بروناي)، وكما سنرى في الحلقة القادمة، وقّعت تحالفًا مع شركة أمريكية لشحن النفط الأمريكي.
Comment