نفطيّات: دروس من تاريخ صناعة النفط (الحلقة الثانية)
دروس من تاريخ صناعة النفط
أنس بن فيصل الحجي
الحلقة الثانية
قبل الخوض في موضوع المبحث الأول عن الحاجة لإدارة سوق النفط، لابد من ذكر بعض الأمور التاريخية:
- عُرف النفط منذ آلاف السنين وفي عديد من الحضارات، حيث كان يطفوا على سطح الأرض، واستُخدم في علاج الإنسان والحيوان، وفي دهان السفن والبيوت وغيرها. وهناك أدلة على أن الصينيين حفروا آباراً سطحية، واستخدموا القصب “البامبو” في الحفر، كما استخدموه كأنابيب لنقله أيضاً. ويمكن مراجعة #مفاهيم_نفطية في تويتر لمزيد من المعلومات، خاصة فيما يتعلق بالتسمية، لأن كلمة (بتروليوم) تعني “زيت الصخر” وهي تسمية، لو دققنا فيها، لوجدنا أنها بدائية جداً.
- أول اكتشاف تجاري بالمعنى الحديث حصل في مدينة (باكو) في (أذربيجان)، وليس في ولاية (بنسلفانيا) في (الولايات المتحدة الأمريكية). للمزيد عن الموضوع يمكن قراءة المقال التالي: “باكو: نفط وتاريخ… ودماء” https://goo.gl/UMYoHZ
- اقترن اكتشاف النفط في الولايات المتحدة بكل ما هو منكر في كل الأديان: نصب وكذب وخمر ونساء! فقد اكتُشِف النفط في أماكن نائية، وتم بناء قرى ومدن بسرعة كبيرة، كل روّادها من الرجال الباحثين عن الثروة أو العمل. وكون هذه المدن أغلبها رجال، ولديهم المال، فقد انتشرت الحانات وأماكن الرذيلة التي جلبت بائعات الهوى من كل مكان. وساءت الأمور أكثر بعد اكتشاف النفط في (تكساس) حيث عجّت جرائد ذلك الوقت بقصص النصب والاحتيال في صناعة النفط الأمريكية.
إلا أن المثير في الأمر، أن صناعة النفط الأمريكية بدأت بعملية نصب وكذبة. فإذا كانت ولادة الصناعة على هذا الشكل، فيمكن التنبؤ بما حصل فيما بعد عندما استغلت الشركات الأمريكية والأوروبية الدول الفقيرة في كل من الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا ونهبت ثرواتها.
أيقن فريق من المستثمرين الأمريكيين أنه إذا تم استُخرج الكيروسين من النفط الموجود على سطح الأرض، فإنه يمكن استخدامه في الإضاءة على نطاق واسع في المدن الأمريكية كافةً، بدلا من زيت الحيتان الذي ارتفعت أسعاره بشكل كبير، بسبب ندرة الحيتان بعد فترة طويلة من الصيد الجائر، وبدلا من الزيت المستخرج من الفحم، الذي له رائحة بشعة، و ضرر صحيا. كما يمكن استخراج الشحوم منه لتشحيم الآلات والقطارات وغيرها، في وقت كانت المكننة تنتشر فيه بشكل كبير. باختصار، إذا استطاعوا تكرير النفط فإنهم سيحققون أرباحا ضخمة.
قام المستثمرون في عام 1854 بتوقيع عقد مع أستاذ في الكيمياء في جامعة (ييل) الأمريكية -التي كانت أرقى جامعة أمريكية في ذلك الوقت- اسمه (بنيامين سليمان)، لمعرفة إذا ما كان يمكن تكرير النفط الخام، والحصول على مادة الكيروسين أو ماشابهها، للاستخدام في الإضاءة. وكانت قيمة العقد حوالي 526 دولار -حوالي 19 ألف دولار حاليا-. بعد شهور من البحث تم التوصل إلى نتائج أفضل بكثير مما توقعه المستثمرون، الذين حاولوا الحصول على التقرير دون دفع المبلغ. وحاولوا التحايل على (بنيامين)، والذي اكتشف تحايلهم، فأخفى النتائج عند صديق له، وغادر البلد إلى مكان مجهول، حتى قام أحد المستثمرين بدفع المبلغ لوحده، لأنه لايمكن جمع أي مبالغ أخرى من مستثمرين جدد بدون التقرير. وتم الحصول على التقرير وإنشاء شركة متخصصة سموها “شركة بنسلفانيا لزيت الصخر”
أما بالنسبة للكذبة، فإن المستثمرين الذين أرسلوا فريق الحفر إلى ريف غرب (بنسلفانيا) أقنعو الناس بأن (أدوين دريك)، قائد عملية الحفر عقيد سابق في الجيش لكي يحظى باحترام السكان المحليين، وهو لم يكن كذلك على الإطلاق، بل كان كما يسمى بالعامية “مسبّع الكارات”، وكان موظفا في سكة الحديد في إجازة غير مدفوعة الأجر، ولكن مازالت لديه البطاقة التي تثبت أنه ما زال موظفا لدى سكة الحديد. وهذا ما أغرى المستثمرين أيضا لأنه يمكنه التنقل مجاناً على حساب سكة الحديد، الأمر الذي يقلل من تكاليف المستثمرين! وهو أمر آخر غير اخلاقي في عملية الاستثمار هذه.
أدوين دريك على اليمين يتحدث مع صاحبه بيتر ويلسون ويظهر المكان الذي حفر فيه أول بئر
المصدر: الصورة الأصلية موجودة في متحف بئر دريك في غرب بنسلفانيا
في النهاية، أكتشف العقيد (ادوين دريك) النفط يوم السبت الموافق 27 أغسطس 1859 على عمق 69 قدما (21 مترا، طبعا الآن يتم حفر آلاف الأمتار للحصول على النفط)، ونظرا لأن كمية النفط فاقت التوقعات، فإنه تم استخدام براميل الخمر والجعة لتعبئة النفط ونقله، ومن يومها وكميات النفط تقاس بالبرميل، مع أنه توقف استخدام البراميل منذ زمن بعيد.
ومع هذا الاكتشاف، بزغ فجر جديد! ليس للبشرية فحسب، ولكن حتى للحيتان أيضا التي كانت تُقتل لاستخلاص زيوتها لاستخدامها في الإضاءة. ويمكن القول بأنه لولا النفط والغاز، لما وصل عدد سكان العالم إلى ما هو عليه اليوم، وأن النفط والغاز جنّب العالم كوارث ضخمة و مجاعات وأمراض كثيرة. فالثورة الزراعية التي مكنّت الزيادة في السكان وأدت إلى تلافي المجاعات ما كانت لتتمّ لولا الثورة في تطوير السماد، والذي جاء من النفط والغاز.
الآن، لنعود إلى الموضوع الأصلي،
1- الحاجة لإدارة السوق:
هناك عدة عوامل اقتصادية بحتة تتطلب إدارة أسواق النفط، كما أن هناك عوامل تجعلها محط أنظار المحتكرين والسياسيين، خاصة إذا كان الهدف هو استقرار الأسعار، وتخفيض التكاليف، وزيادة الكفاءة في الإنتاج. وأهم العوامل التي تميز صناعة النفط وتتطلب إدارة أسواقها هو النسبة العالية للتكاليف الثابتة غير المستردّة، وطيلة وقت فترات العمل ما قبل الإنتاج وما بعد الإنتاج، وانخفاض الاستثمار في فترات الأسعار المنخفضة، والخسائر الكبيرة من تقلب أسعار النفط.
- فأغلب تكاليف صناعة النفط ثابتة، ولا يمكن تعويضها، بينما تكاليف العمليات أو التكاليف المتغيرة بسيطة جداً مقارنة برأس المال المستثمر. فعمليات الاستكشاف والتنقيب عن النفط مكلفة جدا، وإذا قررت الشركة وقف هذه العمليات فإنه لايمكن أن تسترجع نفقاتها. وإذا ما حفرت بئرا فإن تَركَه أو إغلاقه او ردمه لايمكّنها من استرجاع أيّ من هذه التكاليف.
- وعمليات التخطيط والاستكشاف والتنقيب تستغرق وقتاً من الزمن، كما أن عمليات الإنتاج تاريخياً تستمر من عشرين إلى ثلاثين سنة.
- فإذا انخفضت الأسعار، فإن الإنتاج سيستمر طالما أن السعر يغطي التكاليف المتغيرة، لأن التكاليف الثابتة تم خسارتها على كل الحالات. وفي بعض الأحيان تضطر بعض الشركات أو الدول إلى زيادة الإنتاج للتعويض عن خسائر انخفاض الأسعار، فتنخفض الأسعار أكثر، وتستمر بالانخفاض. إلا أنه في هذا الوضع لاتتخذ قرارات استثمارية بسبب انخفاض الأسعار، وهذا يعني انه تم زراعة بذور الارتفاع القادم في أسعار النفط، وهكذا تتنقل صناعة النفط من أسعار منخفضة جداً إلى أسعار مرتفعة جداً.
*********************************
مثال مبسط “للغاية”:
- تكاليف ثابتة لا يمكن استرجاعها: 28 مليون دولار
- تكاليف العمليات (متغيرة): 2 مليون دولار
إذا التكاليف الكلية 30 مليون دولار
- الإنتاج 1500 برميل يوميا
- السعر 55 دولار للبرميل.
(سنتجاهل الضرائب والتكاليف الأخرى للتبسيط)
- الإيرادات السنوية: 1500 * 55 *365 = حوالي 30 مليون دولار
طالما أن الإيرادات أعلى من التكاليف الكلية، فإن الشركة ستستمر في الإنتاج, ولكن ماذا سيحصل لو انخفضت الأسعار إلى 18 دولار للبرميل؟ هل تتوقف الشركة عن الإنتاج وتغلق أبوابها؟
1500 *18 * 365 = حوالي 10 ملايين الدولار
هنا الإيرادات أقل من التكاليف بحوالي عشرين مليون دولار. الشركة تحقق خسائر، ولكنها لن تغلق أبوابها ولن تتوقف عن الإنتاج. لماذا؟
لأنها لو أغلقت فإن اجمالي خسائرها 30 مليون دولار.
ولو استمرت في الإنتاج فإتها ستخسر 20 مليون دولار فقط.
هذا يفسر استمرار منتجي النفط الصخري في الإنتاج في فترة انخفاض أسعار النفط في عامي 2015 و 2016 رغم أن تكاليفهم كانت أعلى من الأسعار. كما يفسر سبب بقاء الأسعار منخفضة، كما يفسر أحيانا الانخفاض المستمر في الأسعار. الشركة في المثال أعلاه ستغلق أبوابها عندما تكون إيراداتها أقل من مليوني دولار، لأنها لو استمرت في الإنتاج فإن خسائرها ستكون أعلى من 30 مليون دولار.
*********************************
- ماسبق يعني أن التقلبات الشديدة من صفات صناعة النفط إذا تركت لوحدها، الأمر الذي ينتج عنه خسائر فادحة للشركات والمجتمع (بسبب خسارة مورد طبيعي ناضب من جهة، وبسبب خسارة العمال لوظائفهم من ناحية أخرى)، وانخفاض كبير في الكفاءة، وارتفاع التكاليف، ناهيك عن كل الأضرار الاقتصادية الناتجة عن تقلب الأسعار الكبير والشديد.
- وهذا يعني أن هناك حاجة لإدارة أسواق النفط وعدم تركها لسوق المنافسة لما في ذلك من آثار مدمرة.
- من ناحية أخرى، فإنه نظرا لكمية الخسائر الناتجة عن تقلب أسعار النفط وارتفاع التكاليف، وانخفاض الكفاءة في الإنتاج، فإن من يستطيع التحكم بالسوق ويديره، قادر -هو وكل المنتجين الآخرين- تحقيق أرباح ضخمة. هذا يعني أن تقلبات صناعة النفط لاتتطلب إدارة فقط، وإنما تخلق فرصا كبيرة للإدارة والاحتكار والتحكم في الأسواق.
- فإذا نظرنا إلى النقاط السابقة، ثم نظرنا إلى تاريخ صناعة النفط، نجد أنه كان هناك محاولات عدة من القطاعين الخاص والحكومي للسيطرة على صناعة النفط لما في ذلك من أرباح و وفورات ضخمة. و لوجدنا أن فترات استقرار الأسعار تاريخيا كانت الفترات التي سيطرت عليها شركات احتكارية أو هيئات حكومية بقوة الجيش والقانون. وبناء على هذه الأفكار، تم إنشاء (أوبك)، لاقتناع الدول المنتجة، أنه لابد من إدارة السوق.
وستُغطّى في الحلقات القادمة هذه المواضيع حسب الحقبات الزمنية كما يلي:
- فترة سيطرة “روكفلّر” وشركته “ستنادارد أويل”
- فترة سيطرة شركات النفط المسماة عرفاً ب “الأخوات السبع”
- فترة سيطرة “مصلحة سكة حديد تكساس”
- فترة التسعير الحكومي في الولايات المتحدة لصناعة النفط والغاز
- فترة أوبك
Comment