نفطيّات: امبراطورية روكِفِلّر النفطية (الحلقة الثالثة)
دروس من تاريخ صناعة النفط
أنس بن فيصل الحجي
الحلقة الثالثة
امبراطورية روكِفِلّر النفطية
ناقشت الحلقة السابقة ضرورة إدارة أسواق النفط، بدلًا من تركها للمنافسة القاتلة بين المنتجين، وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة صناعة النفط نفسها. وهذه الأسباب هي التي نتج عنها قيام القطاع الخاص والحكومات بمحاولات للسيطرة على الصناعة، بهدف وقف الهدر وزيادة الكفاءة في الإنتاج وتحقيق الاستقرار في الأسواق والأسعار. الهدر كان كبيرًا جدًا في الفترات الأولى من الصناعة، فقد قُدّرتْ خسارة حوالي 30% من النفط في أثناء إنتاج النفط الخام ونقله، ويرمى 40% من 70% الباقية التي يتم تكريرها في الأنهار، لأنها منتجات نفطية ليس لها استخدام في ذلك الوقت. أي رجل أعمال ناجح يرى في هذا الهدر فرصة ناجحة لجني أرباح كبيرة.
ويشرح الشكل البياني أدناه الفترات المختلفة لأسعار النفط منذ عام 1860م، بالأسعار الاسمية، وبسعرها بدولارات 2017م. وأهم درس نستوحيه من الرسم البياني أن استقرار السوق والأسعار كان في فترات فُعّلتْ فيها إدارة السوق، وأن الذبذبة الكبيرة حصلت عندما تُركت السوق لوحدها، وأن (أوبك) لم تستطع إدارة السوق كما كانت تديرها الشركات والهيئات الأخرى، فزادت التقلبات في عهدها. وسبب ذلك أن حصة (أوبك) السوقية ضعيفة، وغير متكاملة رأسيًا وأفقيًا كما كانت شركات النفط، ولا تستخدم الحرس الوطني والشرطة لإجبار الأعضاء على تخفيض الإنتاج، كما حصل في (تكساس و أكلاهوما) في الولايات المتحدة. هذه النتيجة، التي تشهد عليها تقلبات الأسعار في فترة (أوبك)، تشير إلى أن الادّعاء بأن (أوبك) متحكمة بأسواق النفط غير صحيح، وأن قول الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) أن (أوبك) منظمة احتكارية في تغريدته الأخيرة غير صحيح أيضًا، وأن مشروع “لا-أوبك” في الكونغرس الأمريكي الآن هو مجرد مناورة سياسية، لأن (أوبك) لاتتصف بالصفات الاحتكارية التي تحددها قوانين الاحتكار الأمريكي، والتي ستتكشف لنا عبر الحلقتين القادمتين.
الشكل رقم (1)
أسعار النفط الاسمية والحقيقية منذ بزوغ الصناعة
Source: EOA, 2018 and BP, 2018
فترة سيطرة “روكفِلّر” وشركته “ستنادارد أويل”
(جون روِكفِلّر)، والذي كان قارون عصره ثروةً، وأغنى رجل في العالم، وأغنى رجل في التاريخ الأمريكي (مقارنة بالناتج المحلي للولايات المتحدة)، لم يكن مثل قارون، ولم يكن يهوديًا -كما هو شائع في كثير من الكتابات العربية- بل كان مسيحيًا بروتستانتياً ممارسًا لدينه، وأنفق بسخاء على الجمعيات الخيرية، خاصة الدينية التابعة لمذهبه، ورغم الخلاف حول أصله، إلا أن الأصح أنه من أصول ألمانية.
نشأ في عائلة فقيرة عانت من الغياب المستمر للأب، الذي اشتهر بنصبه وكذبه، ثم اختفى، ولكن أمه كانت سيدة صارمة متقشفة متدينة، وظهرت آثار تربيتها في عدد من مزاياه. وبسبب صرامة أمه وحسن إدارتها، وبعد تنقل بين عدة مدن أمريكية، تمكّن من الحصول على الشّهادة الثانوية في مدينة (كليفلاند) في ولاية (أوهايو)، والتي كانت تعدّ من أهم المدن الصناعية والتجارية في الولايات المتحدة آنذاك. ثم دخل معهدًا للمحاسبة لفترة بسيطة، وحصل على وظيفة محاسب وهو مازال في السادسة عشرة من عمره. وبعد بضع سنوات استقال وأسس شركة تجارية للاستفادة من موانئ (كليفلاند) وبدأ بتجارة الحبوب والخضار وغيرها.
ومع بزوغ تجارة النفط، تحوّل إليها، ثم استثمر في مصفاة صغيرة في منطقة تكثر فيها المصافي. وشيئًا فشيئًا، استطاع شراء المصافي الأخرى، حتى أصبح إمبراطور صناعة النفط دون منازع.
ومن عجائب القدر أنه ذكر آماله عندما كان صغيرًا لبعض أصدقائه، حيث قال: إن أمله في الحياة هو 100-100، حيث أراد أن يجمع ثروة قدرها 100 ألف دولار (حوالي 2,75 مليون دولار بدولارات اليوم)، وأن يعيش مئة عام. وحقق الله أمنيته، فأصبح أغنى رجل، وتوفّي عن عمر يناهز 97 عامًا. كان متدينًا، ومؤيداً لحركة تحرير العبيد، ولم يحارب في الحرب الأهلية الأمريكية لأن القانون مكّنه من تمويل جندي مكانه، كعادة الأغنياء في ذلك الوقت. ويذكر أنه عانى من أمراض كثيرة، حاصة مع اقدمه في العمر.
صور لجون روكَفَلّر في مراحل مختلفة من عمره
وما جعل مصفاة (روكفِلّر) تتميز عن غيرها وقتها، وكل المصافي التي تلتها، أنها كانت الأقل تكلفة. فصناعة التكرير وقتها كان هدفها إنتاج الكيروسين الذي كان سوقه في نموّ كبير ومستمر، كونه أفضل وقود للاضاءة، الأمر الذي جعل المصافي تنتج الكيروسين، ثم ترمي الباقي، الذي قد يصل إلى 50% من الكمية أحياناً، في الأنهار المجاورة. ولكن خصلة التقشف التي ورثها عن أمه منعته من ذلك، فاستخدم الكميات الباقية في أمور متنوّعة، وأنتج منتجات مختلفة. فاستخدم البنزين في عمليات التسخين في المصفاة، وأنتج أنواعًا عديدة من الزيوت والشحوم وبعض المراهم الطبية، التي روّج لها، ودرّت عليه أرباحًا مجزية.
في تلك الفترة شكّل (روكفلر) قناعاته التي جعلت منه إمبراطور صناعة النفط:
- وضْع صناعة النفط متردّ جدًا بسبب المنافسة الشديدة، وكلما خسرت مجموعة من الناس والمستثمرين، وخرجت من السوق، جاء غيرها من أماكن بعيدة، لم يعرفوا بقصة من سبقهم، وهكذا، وسبب ذلك أن متطلبات الدخول للصناعة (وقتها) بسيطة جدًا. وكان الناس يشترون عدّة أمتار مربعة فقط تتسع فقط للحفارة، ويحفرون، وينتجون، وبجوارهم مئات المنتجين الذي فعلوا الشيء نفسه (انظر الصورة أدناه لإدراك معنى هذه الجملة).
- الجميع يدرك أن تخفيض الإنتاج مفيد للجميع، ولكنّ (الجميع) يسحب من الحقل نفسه، وهذا الحقل سينضب، لذلك ليس هناك أي حافز لتخفيض الإنتاج, فإذا خفضت مجموعة من المنتجين إنتاجها، سيستمر الآخرون بالإنتاج،و سينضب النفط، فالجميع “يشفط من نفس الوعاء” -إن صح التعبير-.
- لهذا فإن المنافسة تؤدي لهدر الأموال والموارد الطبيعية، وضد الكفاءة، وضد استقرار الأسواق والأسعار. لذلك لابد من إدارة السوق. هذا الاعتقاد هو الذي وضع حجر الأساس لشركة (ستنادرد أويل)، ثم (الأخوات السبع) من بعدها، و(مصلحة سكة حديد تكساس)، والقوانين المختلفة للولايات النفطية الأمريكية والحكومة الفدرالية، وأخيرًا (أوبك). اقتنع (روِكفِلّر) أن الصناعة تدمر نفسها بنفسها، ولابد من إيقاف ذلك. ولتوضيح ما رآه (روِكفِلّر) في غرب (بنسلفانيا)، أنقل هنا ما حصل في الخمس عشرة سنة الأولى من الصناعة: انحفض السعر من 16 دولارًا للبرميل إلى حوالي نصف دولار، ثم ارتفع إلى 8 دولارات، ثم انخفض إلى دولارين، ثم إلى ارتفع إلى 6 دولارات، ثم انخفض إلى دولارين. خلال هذه التقلبات، خسر كثير من المستثمرين والمضاربين والمقامرين أموالهم، بينما فاض النفط ومنتجاته، لدرجة أنه جُمِّعَ في أراض زراعية تشبه بحيرات الماء الكبيرة.
هذه التقلبات، والهدر الكبير لم ترُق ل(روِكفِلّر) ، فتوسّع في أعماله، حتى أسّس شركة (ستاندارد أويل).
ستاندارد أويل
بعد شراء عدة منافسين من مكرّري النفط، ومشاركة آخرين، أسّس (روكفلر) شركة (ستاندارد أويل)، التي تعدّ أمّ صناعة النفط العالمية، وأمّ أغلب شركات النفط العالمية الموجودة حاليًا، وذلك في بداية عام 1870م.
ركّز (روكفلر) جهوده على التكرير والتسويق والتوزيع (الجزء الأدنى من صناعة النفط)، ثم توسّع فيما بعد في مجال الاستكشاف والإنتاج (الجزء الأعلى من الصناعة). واستطاع تخفيض التكاليف وزيادة حصته السوقية عن طريق زيادة الكفاءة في عمليات التكريروالتوزيع، ووقف الهدر، والاستثمار في المعرفة واكتساب المهارات، والتركيز على النوعية في المنتجات والخدمات. كما قام بتحسين وضع العمال في شركته بالتدريب المستمر والرواتب العالية والمكافآت المجزية للمنجزين والناجحين. كما ركّز على البيع بكميات كبيرة، الأمر الذي مكّنه من تخفيض الأسعار، ممّا أفاد المستهلكين. ونتيجة لمهاراته الإدارية والتسويقية، سيطرت شركته (ستاندارد أويل) على 90% من سوق التكرير الأمريكية و 66% من تجارة النفط العالمية، في أوج قوّتها.
واستطاع السيطرة على صناعة النفط محليًا وعالميًا، لدرجة أنه حدّد أسعار المنتجات النفطية في العالم، وحدّد أسعار النفط الخام. ونظرًا لانخفاض تكلفته وحجم مبيعاته الكبير، أبقى الأسعار منخفضة نسبيًا، ومستقرة لوقت طويل، كما هو موضح في الشكل البياني أعلاه. ونتيجة ذلك، منع الآخرين من دخول السوق. هذه النقطة الأخيرة مهمة جدًا لقصة ( جون روِكفِلّر)، ومهمة ل (السعودية) و(أوبك) اليوم. لأنّ “منع الآخرين”-كما سنرى فيما بعد- استُغِلّت ضِدّه في المحكمة الفدرالية لتقسيم شركته بتهمة الاحتكار. والآن هناك مشروع لمحاكمة (أوبك) ودولها في الكونغرس الأمريكي، وإذا ما تمّت الموافقة عليه، ووقّعه الرئيس (ترامب)، فإنه يصبح قانونًا، إلّا أن المشكلة في المحكمة ستكون: هل قامت (أوبك) بمنع المنتجين الآخرين من دخول السوق، كما فعل (روِكفِلّر)، وهو شرط أساس في قوانين مكافحة الاحتكار الأمريكية. كل البيانات والأدلة تشير إلى أن (أوبك) لاتمنع الآخرين من دخول السوق، وبالتالي فإن القانون لاينطبق عليها، رغم وجوده على الورق. وفي هذا السياق، من الواضح أنه من الأفضل لدول (أوبك) بذل الجهود لمنع هذا المشروع من أن يصبح قانوناً على أي حال من الأحوال. وبالتالي فإنه لابد من التعامل مع إدارة (ترامب) لوقف مشروع هذا القانون، وهذا يتطلب توافق المصالح للوصول إلى اتفاق.
وبسبب الكميات الضخمة التي كانت تتعامل بها (ٍستاندارد أويل) بشكل يومي، استطاع (روكفلر) أن يتحكم بشركات القطارات وشركات النقل البحري، واستطاع الحصول على تخفيضات لم يستطع المنتجون الآخرون الحصول عليها، الأمر الذي خفّض تكاليفه أكثر. ثم قام بعقد تحالفات مع شركات القطارات، ممّا ضمنَ له تعرفة أقل، وأولوية في الشحن. فقامت ضده وضد شركات القطارات مظاهرات -كان بعضها عنيفا- من قبل منافسيه، الأمر الذي أجبرهم على إلغاء التحالف. إلا أنه استمر بالحصول على تحفيضات في كل حال. وهذا أمر آخر استُخدم ضده في المحكمة فيما بعد. وهذا لاينطبق على (أوبك) ودورها، لأنها لم تمارسه إطلاقا.
ولعل أحد الأسباب الذي ساعد (روكفِلّر) على تخفيض التكاليف، هو اقتناعه بفكرة تصنيع ما تحتاجه شركته بدلًا من شرائها من الآخرين. فقام بتصنيع أشياء كثيرة، أهمها البراميل التي كان يخزّن فيها النفط، ليُنقلُ إلى كافة أنحاء العالم، وكان عددها هائلًا، وبالتالي فإن الوفورات كانت كبيرة. كانت هذه البراميل تُدهن باللون الأزرق الذي أصبح مشهورًا عالمياً، كناية عن الثقة والجودة لما فيه.
ويمكن تلخيص أسباب نجاح (روكفِلّر) الكبير، بتميزه بالخصال التالية:
- الهوس في تسجيل أي شيء، وجاء هذا من دخوله عالم المحاسبة منذ عمر 15 سنة، حيث اكتشف أن دفاتر المحاسبة تخبر القصة الحقيقية لأي شركة، بغضّ النظر عما يقوله قادة الشركة، أو مايقتنع به المستثمرون أو العملاء.
وأذكر أن أحد كبار رجال الأعمال ورئيس شركة معروفة تخرج من الجامعة التي كنت أدرّس فيها، قال في احدى لقاءاته أثناء زيارته للجامعة، عندما سأله أحد الطلاب عن أهم شيئ تعلّمَه وأسهم في نجاحه فقال: قراءة وفهم القوائم المالية. الأمر الذي يؤكد دور العمل المحاسبي في نجاح (روكفِلّر).
- وبسبب الهوس في التسجيل، أصبح عنده هوس لوقف الهَدر، وزيادة الكفاءة في استخدام رأس المال والموارد، لأن الدفاتر ومافيها من أرقام تعطي معلومات دقيقة لا يمكن لشخص حصرها دون التسجيل ودراسة البيانات.
- الاستماع بدلًا من الكلام، وبالتالي الكتمان. ونتج هذا عن قناعته بأن سرّ نجاحه وإزاحته لكل المنافسين، أن المنافسين وغيرهم كانوا يتكلمون ويتشدقون، فعرف أسرارهم، واشتراهم. فهو لايريد أن يكرر خطأهم. وتشير الروايات إلى أنه قضى وقتًا في غرب (بنسلفانيا) يتنقل من بئر نفط لآخر يجمع المعلومات والأخبار، لدرجة أنه لقّبً بـ “الإسفنجة”! ولكن لم يعرف أحد لماذا كان يجمع المعلومات.
- دراسة الأمور بعمق قبل اتخاذ أي قرار. وقد يكون هذا الأمر نابعًا من الهوس في التسجيل وعلاقته بالدفاتر المحاسبية، حيث كان يقوم بدراسة السوق بنفسه، ويتنقل من مكان لآخر، يسأل، ويسجل. وبعدها يراجع ماسُجّل وكتب، لتتضح الصورة أمامه تمامًا. باختصار، كان يفهم خطر الإشاعات وعقلية القطيع. وشاهد بعينيه كيف تساقط كبير المستثمرين واحداً تلو الآخر بسبب عقلية القطيع هذه، خاصة في فترة اكتشاف النفط الأولى.
- الإيمان العميق بالعلم والتكنولوجيا. كان (روكفلر) يؤمن إيماناً عميقا أن المعرفة والبحث والتطوير والتكنولوجيا تحلّ مشكلات كثيرة، وتُمكّن من جني أرباح كبيرة منها أيضًا، كما أنها تسهم في زيادة الكفاءة، وتخفض التكاليف. ولعل من أهم أسباب غِناه الفاحش ماحصل معه في مدينة (لايما) في ولاية (أوهايو). فبعد انخفاض الإنتاج في غرب (بنسلفانيا)، اكتشف النفط بالقرب من مدينة (لايما)، فتوجّه المستثمرون إليها بكثافة، خاصة أنها قريبة نسبيًا من غرب (بنسلفانيا)، إلا أنه بعد فترة اكتُشفَ أن النفط كان حامضًا بشكل كبير بسبب كمية الكبريت العالية، التي تعطيه رائحة بشعة جدًا، وتخفّض كمية الكيروسين المنتجة، لذلك لم يُسوَّق، وانخفضت أسعاره بشكل كبير. وقرر المنتجون والمستثمرون التخلص من الحقول والأبار والنفط المُخزّن بسعر التراب، فقام (روكفِلّر) بشراء الجميع، وسط دهشة الجميع. ثم قام بتوظيف (هيرمان فرانش)، أستاذ جامعي ألماني متخصص بالكيمياء لإجراء بحوث عن كيفية فصل الكبريت عن النفط، وتم ذلك في عام 1888، فارتفع سعر نفط (لايما) ارتفاعا كبيرًا، وحقّق (روكفِلّر) أرباحاً طائلة. وشراء حقول (لايما) كان سبب دخول شركة “ستاندارد”، ولأول مرة، مجال التنقيب والإنتاج، أو الجزء الأعلى من الصناعة.
- توظيف ومكافأة المبدعين، والاحتفاء بهم. كان (روكِفِلّر) يقدّر الإبداع والإنجاز، وأكرم موظفيه المتميزين، لدرجة أن نسبة ترك العمال لوظائفهم للعمل في مكان آخر، كانت الأقل بين كل الشركات. هذا الأسلوب زاد في إنتاجية الموظفين من جهة، وقلّل من تكاليف تدريب الموةظفين الجدد من ناحية أخرى.
- ولعل أهم خصلة أسهمت في نجاح (روكفلر) هي تركيزه على “النوعية” في كل شيء: المنتج، وعاء المنتج، خدمات البيع، وخدمات مابعد البيع. هذا التركيز على النوعية، مع رخص منتجاته النفطية وثبات أسعارها نسبياً، جعل المستهلكين يفضّلون بضاعته على الآخرين، وأصبح له زبائنه المخلصون. ولعل التركيز على النوعية هو الذي جعله يركّز على تصنيع ماتحتاجه شركته من أدوات وأشياء أخرى، لدرجة أن براميل النفط التي كانوا يصنعونها كانت الأفضل نوعية في السوق. ويمكن القول بأنه إن ركّز على الكمية لتخفيض التكاليف، والحصول على ميزات من شركات القطارات، فقد ركّز على النوعية، ليكسب ثقة العملاء والمستهلكين، وبالتالي لضمان استمرار الطلب على منتجاته، بدلًا من منتجات منافسيه.
ليس كل مايبرق ذهبا
ولكن لا يتفق كل الناس على ما ذُكر أعلاه، فكثير من الملّاك الصغار، والعاملين لديهم، رأوا في (روكِفِلّر) أبشع أوجه الرأسمالية، حيث نافسهم وضيّق عليهم الخناق، حتى أفلسهم أو اشتراهم بثمن بخس. ولجأ إلى أساليب غير أخلاقية، كثير منها لايتناسب مع قيمه الدينية، والتي تضمّنت الرشوة، والتجسس، والتلاعب في إمدادات النفط، لخلق مشكلات لمنافسيه، أو تخفيض الأسعار بشكل كبير كي يفلس منافسوه. وكان دائمًا يحتفظ بكمية من الأموال، ليستخدمها عندما تنهار الأسعار، فيشتري منافسيه وهم في حالة مادية صعبة. فإذا رفضوا، ضيّق عليهم الخناق أكثر، وبوسائل شتى، حتى يستسلموا ويبيعوا شركاتهم. كما دخل في صراع كسر الأذرعة مع كثير من الشركات والمؤسسات والهيئات الحكومية، كسبَ بعضها وخسر بعضها. ونظراً لسيطرته الكبيرة، وكثرة أعدائه، وكثرة المشتكين، تبنّت الحكومة الفدرالية قوانين مكافحة الاحتكار، والتي استخدمت ضده، وأجبرته على تفكيك شركته. وهذا موضوع الحلقة القادمة.
الخلاصة
خلاصة الأمر، إن تخفيض التكاليف، وزيادة الكفاءة، واستقرار السوق، وتخفيض الخسائر، يتطلب إدارة السوق، وأبدع (روكِفِلّر) في ذلك. إلا أن أهم ميزتين علقتا في ذهني هما: التركيز على النوعية، ومكافأة المتميزين. من ناحية أخرى، يتضح من حياة (روكفلر)، أن الأمور الدينية في النهاية، اقتصرت على المظاهر: الذهاب للكنيسة والتبرعات. أما في أرض الواقع، فكان ذئبًا ينهش كل مايمكنه نهشه، حتى لو أضحى أطفال منافسيه في الشارع.
Comment