نفطيّات: البقر يسهم في اكتشاف النفط! (الحلقة السادسة)
دروس من تاريخ صناعة النفط
أنس بن فيصل الحجي
الحلقة السادسة
4- اكتشاف النفط في (تكساس) وظهور المنتجين المستقلين
مع اكتشاف محرّك الاحتراق الداخلي، وزيادة الطلب على البنزين، ظهرت أسواق جديدة للبنزين الذي لم يكن له سوق سابقاً، ولكنه شكّل مشكلة لبعض شركات النفط. فشركة (شل) تعتمد على النفط الخام القادم من (روسيا)، وعلى النفط الخام الذي اكتشفته في (بروناي).
النفط الروسي وقتها كان مناسبًا لإنتاج الكيروسين، ولكنه لم يكن مناسبًا لإنتاج البنزين. الأمر الذي جعل (شل) تركّز على نفط (بروناي) الذي ينتج كميات وفيرة من البنزين بعد تكريره. إلّا أن الطلب العالمي على البنزين تجاوز كمية المعروض، وكان لابد من البحث عن منابع نفط أخرى. من هذا المنطلق، كان اكتشاف النفط في شرق (تكساس) مهمًّا جدًّا لصناعة النفط العالمية، ولشركة (شل) بالذات.
اكتشاف النفط في شرق (تكساس) غيَّر معالم صناعة النفط، كما سنرى في هذه الحلقة، وفي الحلقات القادمة، وسبب هذا التغيير ليس حجم الاكتشاف فقط، وإنما لأن من قام به منتجون أفراد، مستقلون، بعيداً عن سيطرة الشركات الكبيرة، وبعيداً عن سيطرة (روكٍفِلّر) وشركته (ستاندرد).
وقصة اكتشاف النفط في شرق (تكساس) تؤكد على أهمية المعرفة والخبرة، كما سنرى فيما بعد.
اكتشاف حقل (سبيندل توب)
يتضح من سيرة (باتيلو هيجنز) أنه يتميز بطموح وإصرار عجيبين، فقد كان مبتور اليد، ولكنه كان يصرّ على العمل، حالمًا بثروة كبيرة، سواء في قطع الأشجار، أو صناعة الطابوق، في مدينة (بيمونت)، في شرق (تكساس). المشكلة التي عانى منها في صناعة الطابوق، أنه يتطلّب التسخين حتى يصبح صلباً، وتسخينه يتطلب طاقة، وتكاليف الطاقة كانت مرتفعة، فكان دائم البحث عن طريقة لتخفيض تكاليف التسخين، فذهب إلى (بنسلفانيا)، في محاولة لبحث ما إذا كان النفط بديلًا مناسبًا له. خلال تنقّله في (بنسلفانيا)، بدأ يلاحظ أن أماكن الآبار -التي هُجرتْ في ذلك الوقت- موجودة في مناطق محددة، وكلّها شبيهة بمكان قريب من (بيمونت)، يعرف بأنها سبخة تتوسطها هضبة تعرف باسم (سبيندل توب). اقتنع (باتيلو) بوجود النفط تحتها، خاصة أن هناك رائحة كريهة تصدر عنها، هي رائحة الكبريت، وفقاعات غازية تصدر من السبخة من حين لآخر، والتي كانت فقاعات الغاز الطبيعي متسربًا من باطن الأرض.
أقنع (باتيلو) بعض المستثمرين، فاشترى نصف الأرض حول الهضبة، وبدأت عمليات الحفر، ولم يجدوا شيئاً، واقتنع أن عليه أن يحفر أعمق مما وصلوا إليه، ولكن وصلوا إلى طبقة رملية جعلت الحفر إلى مستويات أعمق أشبه بالمستحيل حسب تكنولوجيا ذلك العصر. ولمّا شارف على الإفلاس، كتب إعلانًا في إحدى الجرائد، يشرح فيه ماحصل، فاتّصل به (طوني لوكاس) من (لويزيانا)، وعُقدَت شراكة بينهما، وفشل (لوكاس) أيضًا، ولكنه كان أحسن حظًّا من (باتيلو)، إذ التقى بمستثمرَيْنِ من (بنسلفانيا)، كانا قد نجحا سابقًا في مجال النفط. تمكّن هذان المستثمران من الحصول على تمويل كبير من بنك (ميلون)، التابع لعائلة (ميلون) المشهورة، وقاما- مع (لوكاس)- بتأسيس شركة سمّوها (جي أم جوفي بتروليوم)، نسبة لاسم أحد الشريكين، ولم يكن (باتيلو) شريكًا فيها، لأنه لم يكن لديه أي شيء يقدّمه.
وظفّت الشركة أخوين من عائلة (هاميل)، لحفر المزيد من الآبار في هضبة (سبيندل توب). وكان مصير البئر نفس مصير سابقيها، حيث وصلوا إلى طبقة رملية أوقفتهم عن الحفر. هذه الطبقة الرملية تجعل جوانب البئرتنهار، بينما يستمر تدفق الرمل إلى البئر، ومهما حاولوا، فإنهم لم يستطيعوا تعميق البئر. هنا يأتي دور الخبرة! عندما تمّ الحفر سابقًا في منطقة (كورسيكانا)، جنوب شرق مدينة (دالاس)، واجه العاملون المشكلة نفسها، ولكن صبّ الماء المستمر لإجبار التراب على الارتفاع إلى الأعلى، و الخروج من فوهة البئر، جعل الطين يوقف تدفّق الرمل، ولكن، من أين يأتون بالطين؟
دور البقر
لنتذكر الآن: المكان عبارة عن سبخة تتوسطها هضبة، وهم يحفرون في الهضبة، وتحيط بها مزارع، بعضها مزارع أبقار. قام أحد الأخوين بالمشي باتجاه إحدى مزارع البقر، وطلب من المُزارع أن يعيره بقراته، وقادها إلى السبخة. دخلت الأبقار في السبخة، ومرحت فيها كما شاءت، وحوّلتها من بحيرة ماء إلى بحيرة طين. بعدها أرجع الأبقار لصاحبها، ثم بدأ العاملون بضخّ الطين في البئر، الأمر الذي شكّل جدارًا داخل البئر، ومنع الرمال من التدفق للبئر، فأكملوا الحفر، وفجأة انفجرت البئر، وطارت أدوات الحفر، وكل ما في البئر من طين وأحجار وتراب، في الهواء، ثم انبعثت –بقوة- كمية ضخمة من الغاز الطبيعي، تلاها تدفّق النفط الذي شكّل عمودًا في الهواء، يتجاوز 100 متر، وانهارت الحفّارة.
إنتاج هذه البئر، لم يتجاوز التوقعات فقط، بل تجاوز حتى الأحلام، بإنتاجها حوالي 100 ألف برميل يوميًا. لمعرفة أهمية هذا الاكتشاف تاريخيًا، فإنّ إنتاج هذه البئر وحدها كان يساوي نصف إنتاج الولايات المتحدة كلها في ذلك الوقت.
بداية تدفق النفط من البئر الأولى في (سبيندل توب)
إن أهمية اكتشاف النفط في (سبيندل توب) تكمن في أن تهديد المنتجين المستقلين لهيمنة شركات النفط الكبيرة تهديد حقيقي، وأدّى في النهاية إلى تحطيم سيطرة هذه الشركات، ليس في الولايات المتحدة فقط، ولكن حول العالم. وكما سنرى فيما بعد، فإنّ توسّع المنتجين المستقلين في الإنتاج، هو الذي مكّن الدول النفطية من الوقوف في وجه سيطرة شركات النفط العالمية. لهذا يمكن القول: إن النطفة التي ولدت منها (أوبك)، جاءت يوم اكتشاف النفط في (سبيندل توب).
وهنا لابد من ذكر مفارقة تاريخية:
كان إنتاج النفط الأمريكي في انخفاض مستمر، وكان يتوقع نهايته بعد سنوات، ولكن اكتشاف النفط في شرق (تكساس) غيَّر كل شيء.
وكان إنتاج النفط الأمريكي في انخفاض مستمر منذ السبعينات في القرن الماضي، وبدأت الحكومة الأمريكية تستعد لزيادة اعتمادها على واردات النفط، حتى جاءت ثورة النفط الصخري، وتغيّر بعدها كل شيء!
الآن لنعود إلى البداية، إلى (هيجنز)، صاحب اليد المبتورة الذي أفلس.. لقد كان اختياره للمكان صحيحًا تمامًا، ولكن عدم الخبرة بالتعامل مع الرمال في البئر هو ما أدى إلى خسارته. و لنتذكر أنه اشترى نصف الأرض حول الهضبة، ومازال يملك جزءًا كبيرًا من تلك الأرض. مع اكتشاف أكبر حقل في تاريخ الولايات المتحدة، حتى ذلك الوقت، في وسط أرضه، أصبح تراب أرضه ذهبًا! فقام بتقطيع أرضه قطعاً صغيرة، بالكاد تكفي لوضع حفارة فيها، وباع كل قطعة بخمسة آلاف دولار (بحدود 165 ألف دولار اليوم)، وخلال وقت قصير، تحوّلت المنطقة إلى غابة من حفارات النفط. وتحوّلت المنطقة إلى مدينة لاتنام، تعجّ بآلاف الناس على مدار الساعة. وكما ذُكر في الحلقة الأولى، هذا الجو الهستيري جذب كل من يحلم بالغنى من كل أطراف الولايات المتحدة، وأصبحت عمليات النصب والاحتيال قصص كل يوم في المنطقة، وتلك القصص تحوّلت إلى مايشبه قصص ألف ليلة وليلة.
بعد تقسيم الأراضي إلى مساحات صغيرة، تم حفر الآبار بجوار بعضها
وازداد إنتاج النفط بشكل كبير، وانهارت الأسعار، مما أسهم فيما بعد بتدخّل الحرس الوطني لترشيد الإنتاج. ولكن المهم في قصة آبار شرق (تكساس) مايلي:
ازدياد الطلب على البنزين، مع عدم قدرة شركة (شل) على مقابلة الطلب من حقولها في (بروناي)، وعدم مناسبة النفط الروسي في (باكو) لإنتاج كميات كافية من البنزين، وفي محاولة لكسر احتكار شركة (ستاندرد أويل)، قامت شركة (شل) بتوقيع عقد مع شركة (جي أم جوفي بتروليوم) التي اكتشفت حقل (سبيندل توب) لتوريد النفط ل(شل)، خاصة أن النفط المُنتج مناسب جدأ للحصول على البنزين. كان هذا العقد “ضربة معلم” كما يقول المثل، من قبل (ماركوس سامويل) مؤسس شركة (شل)، وسمي الاتفاق (اتفاقية القرن)، لأهميتها.
وفي بداية القرن العشرين، كانت شركة (شل) تسيطر على 70% من كميات النفط المشحونة بحريًا، وكانت ناقلاتها هي الوحيدة التي يسمح لها بالمرور من قناة السويس. هذه التطورات، أضعفت قبضة (ستاندرد) على الصناعة، ووضعت (شل) في موقع قوي في مفاوضاتها في شركة (رويال دتش)، قبل الاندماج.
إلا أن أمور شركة (شل) بدأت تتعثر بسبب انخفاض إنتاج النفط الأمريكي من جهة، وبسبب إهمال (ماركوس سامويل)، رئيس الشركة، للشركة، بسبب ولَعِه في الرقي في المجتمع الانكليزي الذي هاجر إليه من العراق. فقد أصبح عمدة لندن، وأنشغل بذلك عن أمور الشركة.
Comment