نفطيّات: الأسواق في مهبّ الريح.. دون (روكفلر) (الحلقة الثامنة)
دروس من تاريخ صناعة النفط
أنس بن فيصل الحجي
الحلقة الثامنة
الحديث مازال عن فكرة أنّه إذا كان الهدف هو استقرار أسعار النفط، وتخفيض التكاليف، وتحسين الكفاءة في الإنتاج، والتركيز على نوعية المنتجات والخدمات، فإن السوق تحتاج إلى من يديرها، سواء من القطاع الخاص، أو من القطاع العام. انتهينا في الحلقة الماضية من فترة (روكِفِلّر)، بعد قرار المحكمة العليا تقسيم شركته إلى 34 شركة، وبدأت مرحلة جديدة دون إدارة، ما بين 1911 و 1928م، تخلّلتها الحرب العالمية الأولى بين عامي 1914 و 1918م. وتلا تلك المرحلة مباشرةً مرحلة الكساد الكبير، الذي بدأ في عام 1929م، كما هو موضّح في الشكل البياني رقم (2) أدناه. هذه المرحلة تميّزت بزيادة الذبذبة في الأسعار بشكل كبير، وزيادة الإنتاج، ومعه انخفضت الأسعار، وزاد الهدر، وتدنّت الكفاءة.
الرسم البياني رقم (2)
أسعار النفط منذ 1860 م،حتى الآن
و لسهولة العرض، تم اقتطاع هذه الفترة من الرسم البياني رقم (2)، وعرضها في الشكل البياني رقم (3)، الذي يوضح التطورات الأساسية في تلك الفترة. وستُقسم هذه الفترة إلى ثلاث مراحل: مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، مرحلة الحرب، ومرحلة ما بعد الحرب.
الرسم البياني رقم (3)
أسعار النفط ما بين 1912 و 1928 م
- مرحلة ماقبل الحرب العالمية الأولى:
تميّزت هذه الفترة بالمنافسة الشديدة، وهبوط أسعار النفط، وتقلّبها، الأمر الذي جعل المنتجين في الولايات المتحدة يبحثون عن حلّ، ونتج عن ذلك تدخّل حكومي في الصناعة بشكل كبير.
وأهم مايميّز تلك الفترة:
- المنافسة الشديدة، خاصة في الولايات المتحدة، وهبوط الأسعار، الذي مهّد بدوره للتدخل الحكومي في إدارة الإنتاج.
- تحوّل البحريّة البريطانيّة إلى النفط، ثم تبنّي جيش الولايات المتحدة للنفط كوقود في وسائل مواصلاته كافّة.
- تحوّل وسائل المواصلات كلّها -البرّيّة والبحريّة والجوّيّة- إلى المنتجات النفطيّة.
- تحوّل النفط من سلعة عاديّة إلى سلعة إستراتيجية، لتزايد دورها في النمو الاقتصادي، و سلعة إستراتيجية وسياسية بسبب دورها المتوقّع في الحرب القادمة.
وفيما يلي أهم أسباب المنافسة وهبوط الأسعار:
- بعد تقسيم شركة (ستاندرد) إلى 34 شركة، ظلّ (روكفلر) وشركاه مالكين لكل الشركات، وبالتالي استمرّوا في اجتماعاتهم، وكأنهم مازالوا شركة واحدة، رغم وجود رئيس ومجلس إدارة مستقل لكل شركة. إلّا أن (روكِفِلّر) وشركاه كانوا قد بلغوا من العمر عتيًّا ، وبدؤوا يتقاعدون الواحد تلو الآخر، ومع تقاعدهم أو مماتهم، بدأت العرى التي تربط هذه الشركات ببعضها تتلاشى، ومع مرور الوقت أصبحت هذه الشركات مستقلة، وتتنافس مع بعضها.
- في الوقت نفسه بدأ المنتجون المستقلّون يتوسّعون في أنحاء الولايات المتحدة المتحدة كافّة، في (كنساس وأوكلاهوما وكاليفورنيا)، منافسين بذلك بنات (ستاندرد).
- بدأت الاكتشافات العالمية، منها اكتشاف النفط في (إيران)، وظهور شركة بريطانية جديدة.
- كما دخلت شركة (رويال دتش شل) الأسواق الأمريكية.
- في الوقت ذاته تقدّمت التكنولوجيا، وأصبح قطاع المواصلات -برًّا وبحرًا وجوًّا- يعتمد على المنتجات النفطية. وبما أنّ كل ما ينتج عن برميل النفط يُستخدَم الآن، فقد أصبحت الشركات تحقق عوائد إضافيّة من المال، تمكّنها من الصمود في أثناء انخفاض الأسعار، وهذا عكس فترة (الكيروسين) التي مكّنت (ستاندرد) من السيطرة على السوق عن طريق تخفيض الأسعار.
مع زيادة تخمة المعروض وانخفاض الأسعار، في ظل قوانين محاربة الاحتكار، لم يجد المنتجون حلًّا سوى أن يطلبوا من الحكومات المحلّية أن تتدخل. وبما أن هذه الحكومات لاتستطيع التدخل في الأسعار، لأنه يتنافى مع مبادئ السوق الحرّة، فقد وجدوا مخرجًا في منع الهدر، وضرورة تحسين الكفاءة، للحفاظ على الموارد الطبيعية. وكانت أول ولاية تقوم بذلك هي ولاية (أوكلاهوما)، بالاتفاق بين المنتجين والسياسيين، ومنها انتقلت إلى الولايات الأخرى.
إنه لمن سخرية القدر أن تقوم الحكومات بتقنين الإنتاج للأسباب نفسها التي قرر فيها (روكِفِلّر) السيطرة على الصناعة… الأسباب نفسها تمامًا: وقف الهدر، وزيادة الكفاءة، وتحسين النوعية! ومع هذا حاربته الحكومة، وقسّمت شركته 34 قسماً!
العجيب في الأمر أن حكومة ولاية (أوكلاهوما) أنشأت هيئة مختصة بإدارة ومراقبة حقول النفط، ومن مهامّها:
- تقنين إنتاج النفط في الحقول التي يثبت فيها الهدر!
- تقنين الإنتاج إذا كان أقل من الطلب!
- تقنين الإنتاج إذا انخفضت أسعار النفط إلى أقل من تكلفة إنتاجه!
لماذا هذا الأمر عجيب؟ لأن (روكِفِلّر) كان يقوم بتلك المهمة على أحسن وجه، ولم يدركوا أهمية هذا الدور إلّا بعد أن حاكموه وقسموا شركته! وعجيب أيضًا لأن (أوبك) تحاول أن تقوم بهذا الدور، ومع هذا يحاولون تبنّي قوانين جديدة لمعاقبة (أوبك) على فعلتها، مع أن دور (أوبك) مستسقى من القوانين في الولايات النفطية الأمريكية، مثل (أكلاهوما وتكساس). ومن المعروف أن (ألفونسو بيريز: أبو أوبك)، جاء بالفكرة في الأربعينات من القرن الماضي، عندما رأى نجاح مصلحة سكة حديد (تكساس) في إدارة إنتاج النفط. (وهو أمر سيغطّى لاحقًا).
إلّا أن القوانين الجديدة لم تُؤتِ ثمارها، واستمرت الأسعار بالانخفاض، وفجأة قررت الحكومة الأمريكية دخول الحرب الأمريكية الأولى في عام 1917م. الآن تغيّر الوضع تمامًا: كل مايستخدمه الجيش من طائرات وسفن ودبابات وسيارات يعتمد على النفط. في هذه اللحظة، أصبح النفط سلعة إستراتيجية من وجهة نظر الحكومة الأمريكية. وهذا موضوع الحلقة القادمة.
Comment