مهزلة التسعير الحكومي : التعليم والكوارث مثالاً
أنس الحجي
نشر هذا المقال منذ حوالي 8 سنوات في جريدة “الاقتصادية”
تبين من القصص التي وردت في المقالات الماضية أن التسعير الحكومي، سواء عن طريق التسعير المباشر أو الإعانات، آفة اقتصادية كبيرة. المشكلة أن استئصالها صعب جدا لأسباب أغلبها سياسية.
التعليم والابتعاث
تفاديا للحساسيات، لن أذكر أسماء الجامعات، ولكن خلاصة الأمر أن كثيرا من الجامعات الحكومية في أمريكا الشمالية وأوروبا تشترط رسوما على الطالب الأجنبي أعلى بكثير من الطالب الأمريكي أو الأوروبي. هذه “التسعيرة” للرسوم تحددها حكومة الولاية إذا كانت الجامعة أمريكية أو الحكومة المركزية إذا كانت الجامعة أوروبية. نتج عن هذا التسعير الحكومي للتعليم أن هذه الجامعات بدأت تفضّل قبول الطلاب الأجانب على قبول الطلاب المواطنين. لوحظت هذه الظاهرة منذ زمن بعيد، إلا أنها تفاقمت في الفترات الأخيرة بسبب الضائقة المالية التي وقعت فيها الجامعات بسبب انخفاض الدعم الحكومي من جهة، وخسارة صناديق الجامعات لأموال ضخمة بسبب الانهيار المالي.
ومن المعروف أن لكل ولاية أمريكية جامعاتها التي تشرف عليها حكومة الولاية، وأن مايدفعه مواطنوا الولاية رسوما للجامعات أقل بكثير مما يدفعه المواطنون من خارج الولاية، بما في ذلك الطلاب الأجانب. إلا أنه تم إلغاء هذه الفروق في السنوات الأخيرة في أغلب الجامعات الأمريكية بسبب التنافس بين هذه الجامعات لجذب أفضل الطلاب، و بسبب التحالفات بين هذه الجامعات، خاصة على المستوى الإقليمي. ونتج عن ذلك أن الرسوم العالية يدفعها الطالب الأجنبي فقط، الأمر الذي دفع بكثير من جامعات الولايات الحكومية إلى قبول عدد كبير من الطلاب الأجانب في الفترات الأخيرة على حساب الطلاب الأمريكيين بسبب محدودية عدد الكراسي، والأمر نفسه ينطبق على بعض الجامعات الأوروبية، خاصة البريطانية منها.
لقد أصبح التسعير الحكومي للتعليم بهذا الشكل مصيبة للجميع. فالتسعير الحكومي في الولايات المتحدة هدفه مساعدة الطلاب الأمريكيين، ولكن بعض الطلاب لايستطيعون الحصول على قبول. أما الذي حصلوا على قبول فإنهم يعانون من انخفاض مستويات التعليم بسبب قبول أعداد كبيرة من الطلاب الأجانب بمستويات متدنية لغويا و علميا. أما بالنسبة للطلاب الأجانب فإنهم لايحصلون على التعليم “الأمريكي” بالشكل الذي ترغبه حكوماتهم أو أهلهم الذين ابتعثوهم لأنهم قبلوا بسبب “قدرتهم على الدفع” و ليس بسبب مؤهلاتهم العلمية، لدرجة أن بعض الجامعات شكلت وفودا لزيارة بعض الدول الخليجية لجذب المزيد من الطلاب لدعم موازنة الجامعة. وكما ذكرت سابقاً فإنني سأتفادى ذكر أسماء الجامعات ولكن هناك قصصاً مخزية فعلاً حيث تم قبول طلاب لايمكن لجامعة مرموقة أن تقبلهم، وتم تنجيح الطلاب في معهد اللغة ودخول الجامعة بدون أن يكونوا مؤهلين لغويا لدخول الجامعة، كما قامت بعض الجامعات يتوجيه خطاب للأساتذة بإعفاء الطلاب السعوديين من الامتحانات أثناء شهر رمضان إذا طلب الطالب ذلك!. وسوغت بعض الجامعات قبول الطالب الأجنبي قبل انهائه دورات اللغة الإنكليزية بأن نجاح الطالب الأجنبي في امتحان التوفل يؤهله للذهاب إلى جامعة منافسة، الأمر الذي يؤدي إلى خسارتها للرسوم التي يدفعها هذا الطالب. وقد رأيت بعيني كيف تقوم بعض الجامعات الأمريكية بتسهيل الأمور للطلاب الخليجيين ورفع درجاتهم لجذب المزيد من الطلاب الخليجيين الذي يدفعون ثلاثة أو أربعة أضعاف مايدفعه الطالب الأمريكي من رسوم جامعية. المشكلة أن الرابح من هذه السياسات هو الطالب الأجنبي الكسول، و الخاسر هو الطالب الجاد. باختصار، التسعير الحكومي لرسوم التعليم بهذا الشكل حطم التعليم، حتى في الجامعات الأمريكية المرموقة، والجميع، بما في ذلك دول الخليج، يدفع ثمن هذه السياسات. لاشك أن لدافع الضرائب الحق في أن يحصل على تعليم مجاني أو تعليم أقل تكلفة من غيره، ولكن سياسة تسعير التعليم بهذا الشكل ليست هي الحل، وهناك حلول أفضل.
التسعير الحكومي أثناء الكوارث
ذكرت أكثر من مرة في المقالات السابقة أنه لو كان في التسعير الحكومي خير لأمر به الإسلام. وذكر بعض الأخوة أن هناك ضرورة، حتى في ظل نظام إسلامي، لتدخل الحكومة في التسعير، خاصة في فترات الشدة والكوارث حتى لايتم استغلال الناس. الحقيقة أن استغلال الناس شيئ، و التسعير شيئ آخر، ولايوجد هناك دليل شرعي من السيرة النبوية أو من فترة الخلفاء الراشدين على أن الحكومة قامت بالتسعير حتى في أوقات الشدة. إلا أن نظرة سريعة حول العالم إلى المناطق التي عانت من كوارث وقامت فيها الحكومة بتبني نظام تسعير للمواد الأساسية، بما في ذلك بعض الولايات الأمريكية، يوضح أن التسعير الحكومي زاد الطين بلة، وجلب مصيبة إضافية حيث اختفت المواد الأساسية من السوق تماماً، ولم يتم الحصول عليها إلا بأسعار عالية في السوق السوداء…حتى في أمريكا.
عند حصول فيضان أو إعصار أو جفاف أو أي كارثة أخرى، فإن الطلب على السلع الأساسية يرتفع. في الوقت نفسه ينخفض العرض بسبب الدمار الذي حصل في المنطقة من جهة، وبسبب عدم القدرة على توصيل هذه المواد إلى المناطق المصابة من جهة أخرى. انخفاض العرض وارتفاع الطلب يعني ارتفاع الأسعار، ولكن السعر الحكومي المنخفض يمنع هذه الزيادة الطبيعية في الأسعار. هذا التسعير الحكومي يلغي الحافز لدى التجار من بيع هذه السلع في المناطق المصابة، ويحفزهم على تحويلها إلى مناطق أخرى. أما بالنسبة للتجار المحليين فإنهم يفضلون بيع بضائعهم في المناطق الأخرى بدلا من منطقتهم. النتيجة هي ندرة السلع والخدمات في وقت يحتاجها الناس.
في هذا السياق لابد من ذكر أمر آخر وهو أنه في الدول التي تقوم فيها الحكوم بتسعير الخدمات الصحية، بما في ذلك كشفية الطبيب، فإن الحل الوحيد أمام الطبيب لزيادة دخله هو أن يكشف على أكبر عدد ممكن من المرضى في اليوم! (والأمر نفسه ينطبق على قيام المستوصف أو المشفى بإعطاء عمولة للطبيب على كل مريض).
وقبل أن يبدأ البعض بالحديث عن مزايا الاقتصاد الإسلامي و أخلاقياته لتفادي المشاكل أعلاه، أذكّرهم بأن النظام الاقتصادي الإسلامي نظام إلهي، ولكن التطبيق بشري، الأمر الذي يفسح المجال أمام سياسات حكومية خاطئة. وأذكرهم أيضا بأن الاقتصاد، حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين، عانى من مشاكل التضخم و البطالة وعانى الناس من الإفلاس. وأذكرهم أيضا بأنه آلاف الصفحات من “فقه المعاملات” بما في ذلك “الإفلاس” كتبت للمسلمين، و ليس لغيرهم. هذا ليس إنقاصا من شأن الاقتصاد الإسلامي، ولكن تأكيدا على أنه اقتصاد عملي تدرك قوانينه طبيعة النفس البشرية، وتدرك الثوابت الفيزائية للكون، وتدرك أنه من جدّ وجد، وأنه ليس للخامل في هذه الدنيا نصيب، حتى في ظل خلافة راشدة.
الاقتصاد الإسلامي هو الحل، ولكنه اقتصاد له رجاله…بكل ما تحمله كلمة “رجولة” من معنى.
Comment