من يعتمد على النفط أكثر: الدول المستهلكة أم المنتجة؟
نشر هذا المقال بهذا العنوان: التصريحات المعادية للنفط: جهل أم سياسة مدروسة؟ في جريدة الاقتصادية في يونيو 2008
أنس بن فيصل الحجي
يدعو حماة البئية إلى التخفيف من الاعتماد على النفط و استخدام مصادر الطاقة المتجددة بتخفيض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون و غيره من الغازات الضارة. في نفس الوقت، يدعوا المحافظون الجدد و الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى إنهاء الاعتماد على النفط، علماً بأن صناعة النفط أغدقت المليارات على مرشحي الحزب الجمهوري خلال المائة سنة الماضية. يجمع الخبراء على أنه لولا تمويل شركات النفط الأمريكية للمرشح جورج دبليو بوش لما فاز في انتخابات عام 2000، أو في انتخابات عام 2004.
جهل أم سياسة مدروسة؟
صرح الرئيس الأمريكي أكثر من مرة أنه يستهدف وقف الاعتماد على النفط بشكل عام، ووقف الاعتماد على النفط المستورد بشكل خاص. وقبل ذلك نادى عدد من قادة المحافظين الجدد بضرورة، خاصة جيم ووسلي، رئيس السي آي إيه السابق، بضرورة تبني مصادرة الطاقة المتجددة و إنهاء الاعتماد على النفط. هلّل حماة البئية لهذه التصريحات وللقوانين اللتي فرضتها إدارة بوش، خاصة تلك اللتي تتعلق بالإيثانول والوقود الحيوي، رغم عدم تأييدهم للحزب الجمهوري أو إدارة بوش.
لم تقتصر التصريحات المعادية للنفط على الولايات المتحدة وحدها. ففي الشهور الأخيرة أعلنت فنلندة أنها ستنهي اعتمادها على النفط بالكامل بحلول عام 2030. و قبل ذلك أعلنت السويد أن تهدف إلى أن تصبح “منطقة حرة من الكربون”، و اللذي يعني الاستغناء عن النفط و الفحم كلياً. جاءت هذه التصريحات في خضم موجة من التصريحات اللتي غمرت الدول الأوروبية و بعض الدول الشرق أسيوية و الرامية إلى زيادة دور مصادر الطاقة البديلة. و ساعد على ذلك ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية في الصيف الماضي، و المواقف الإيرانية و الفنزويلية المعادية للغرب.
هل تأتي هذه التصريحات ضمن خطة علمية متكاملة للتخلص من النفط، أم أنها تنم عن جهل كبير، ليس في مواضيع النفط فقط، و إنما في أمور الطاقة بشكل عام؟ هل هذه التصريحات الرنانة مجرد “تصريحات” أم أنها ستأتي أكلها فيما بعد؟ إن أي متبحر في أمور النفط يدرك بسرعة أنها مجرد “تصريحات”، و أن هناك جهل كبير في أمور النفط، و أن أي خطط لإنهاء الاعتماد على النفط، أو تخفيف الاعتماد عليه بشكل كبير، مصيرها الفشل، و أن دور المصادر البديلة للنفط سيتطور مع الزمن ولكن سيبقى دورها بسيطاً. المشكلة أن هذه التصريحات المعادية للنفط قد تقود العالم إلى أزمة نفطية تفوق في آثارها أزمة الطاقة في السبعينيات.
ثمن “الجهل”: أزمة طاقة عالمية
إذا صدّقت الدول المنتجة للنفط تصريحات الإدارة الأمريكية، و المحافظون الجدد، و حماة البيئة، و حزب الخضر في أوروبا، فإن العالم مقبل على أزمة طاقة عالمية لم يسبق لها مثيل. كيف تتصرف حكومات الدول المنتجة للنفط إذا كانت مقتنعة فعلاً بأن الدول الصناعية ستتخلى عن النفط خلال 25 سنة القادمة ؟ إن هذا الاقتناع سيؤدي إلى أحد أمرين:
-
أن تبدأ الدول المنتجة بتخفيض الاستثمار في صناعة النفط، الأمر اللذي سيؤدي إلى تناقص الطاقة الإنتاجية مع الزمن. لماذا تنفق هذه الدول مئات المليارات على تطوير طاقة إنتاجية إضافية إذا كان لايمكنها بيع هذا النفط في المستقبل؟ هذا الانخفاض في الطاقة الإنتاجية سيكون أسرع بكثير من تطوير مصارد طاقة بديلة، الأمر اللذي سيؤدي إلى عجز في إمدادات الطاقة في العالم. سينتج عن هذا العجز وضع اقتصادي ينذر بالشؤم: انهيار اقتصادات الدول الصناعية بسبب شح مصارد الطاقة، في وقت ترتفع فيه أسعار النفط إلى مستويات قياسية. في هذه الحالة لن يصاحب انهيار اقتصادات الدول المستهلكة انخفاض في أسعار النفط كما عهدنا سابقاً.
لنتذكر أن التصريحات المعادية للنفط هدفها حماية الاقتصاد المحلي من جهة، و حماية البيئة من جهة أخرى. و لكن أثار هذه التصريحات ستكون معاكسة تماماً لما يرمي إليه من صرح بها. فالاقتصاد سينهار في وقت ستتضطر حكومات الدول المستهلكة إلى تخفيض الإنفاق على حماية البيئة، الأمر اللذي سيرفع من مستويات التلوث.
-
أن تتبنى الدول المنتجة سياسة معاكسة للسياسة السابقة فتزيد من الاستثمار في قطاع النفط و ترفع الإنتاج، الأمر اللذي سيخفض أسعار النفط إلى مستويات تمنع تطوير أغلب المصادر البديلة. في هذه الحالة سيزيد اعتماد الدول الصناعية على النفط، وستزداد معدلات التلوث. أليس هذا عكس ما يريده أصحاب التصريحات الداعية لتخفيض الاعتماد على النفط؟
ردة فعل الدول المنتجة للنفط
إن أفضل سياسة لدول النفط لمجابهة هذه التصريحات هو تجاهلها، خاصة أن مصادر الطاقة البديلة مازالت في مهدها و تحتاج إلى عدة عقود من الزمن كي تتمكن من منافسة النفط بدون أي إعانات حكومية.
ولكن هذا لايعني أن يتم تجاهل مصادر الطاقة البديلة، أو أثر القوانين البيئية في الدول المستهلكة. بل على العكس، فالكل يعرف أن النفط مصدر ناضب، و يعرف أن اقتصادات الدول المنتجة معرضة للخطر بسبب اعتمادها على صادرات النفط، و أن تكنولوجيا المصادر البديلة تزحف ببطئ، ولكن بقوة. لذلك فإنه يجب على الدول المنتجة للنفط أن تنوع مصادر دخلها باسرع وقت، مهما كان وضع النفط في المستقبل. كما أن عليها ان تستثمرقدر الإمكان في مصادر بديلة للطاقة للتخفيف من الاعتماد على النفط داخلياً بهدف زيادة الصادرات النفطية من جهة، و تخفيف آثار التلوث من جهة أخرى. إن إسهام الدول النفطية في تمويل تكنولوجيا تجميع غاز ثاني أكسيد الكربون و ضخه في آبار النفط سيسهم في زيادة الاحتياطيات النفطية، كما سيسهم في تخفيف التلوث.
خلاصة الأمر، إن الدول المنتجة للنفط أولى من الدول المستهلكة بشعار “التخفيف من الاعتماد على النفط”، و عليها أن تقوم بذلك اختيارياً قبل أن تجبر عليه بشكل مفاجئ، أما بسبب نضوب النفط، أو بسبب تخلي الدول المستهلكة عنه. كما أن عليها أن تكافح الجهل بأمور النفط على المستويين المحلي أولاً ثم العالمي ثانياً، و ذلك حتى لا يتم مكافحة الجهل بالجهل. نحن بحاجة ماسة إلى “ثقافة نفطية”.
Comment