نشر في مارس 2002 في جريدة الوطن السعودية، وحصل الانقلاب بعده بشهر تقريبا. ولكن شافيز عاد بعدها بأيام من المنفى ليستمر في كرسي الرئاسة.
د. أنس بن فيصل الحجي
بعيداً عن الهرطقة السياسية والزوابع الإعلامية, من أكثر خطراً على أمريكا اليوم, رئيس العراق صدام حسين أم رئيس فينيزويلا هيوغو شافيز؟ إنه بالتأكيد هيوغو شافيز الذي تحاول الولايات المتحدة تغييره بصمت, فقد طغت أخبار الإرهاب و إسرائيل واحتمال ضرب العراق على الأخبار الأخرى, وضاع شافيز بين السطور, ولكنه مازال من أهم الأسماء في لائحة البيت الأبيض.
أمريكا ناقمة على شافيز لأنه غير المعادلة السياسية في أمريكا اللاتينية, و غاضبة لأن شافيز يثير الرأي العام في المنطقة ضدها, وثائرة لأن شافيز يدعم الثوار الكولومبيين الذين تحاربهم الحكومة الأمريكية مع الحكومة الكولومبية, و تكاد تجن بسبب زيارة شافيز لكل من إيران وليبيا والعراق وكوبا. أمريكا لا تريد أن ترى “جيفارا” آخر في المنطقة, ولا تريد استنساخ “كاسترو” جديد. وفهم شافيز اللعبة, فناور وشاور و أخذ و أعطى, و “بلعت” أمريكا المقلب حين اكتشفت أن شافيز خلال تلك الفترة قد “طير” أعوانها من الجيش ومن شركة النفط الفنيزويلية.
لقد أدركت الولايات المتحدة أهمية فينيزويلا النفطية منذ أكثر من خمسين سنة, فوقعت معها معاهدة أمنية تقتضي بدفاع الولايات المتحدة عن فينيزويلا. ومع توقيع هذه المعاهدة تم إرساء القواعد الأساسية للعمل السياسي في فينيزويلا بحيث تكون الحكومة المنتخبة, وبشكل طبيعي, حليفة لأمريكا. ولكن شافيز اتبع قواعد اللعبة نفسها و انقلب على أمريكا, أمر لا يغفره الأمريكيون. أمريكا تعتمد بشكل كبير على النفط الفنيزويلي لدرجة أن فينيزويلا تصدرت قائمة المصدرين إلى الولايات المتحدة لعدة سنوات, بينما لم يصل العراق إلى هذا المستوى أو حتى إلى المركز الخامس. والنفط الفنيزويلي ليس قريباً من الولايات المتحدة فقط, بل هو بعيد عن مناطق النزاع الساخنة في العالم. ولكن شافيز, من وجهة نظر الأمريكيين, حول فينيزويلا نفسها إلى نقطة نزاع ساخنة, أمر يخالف قواعد اللعبة الأمريكية. أمريكا تعتمد على فينزويلا لمحاربة الحركات اليسارية في أمريكا اللاتينية, فجاء شافيز يسارياً وطنياً يريد أن يمد يده إلى كافة الحركات اليسارية في العالم, أمر يخالف المصالح الأمريكية. لذلك فإن شافيز اخطر من صدام على أمريكا.
وقام الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون بتقوية العلاقات مع فينيزويلا, فسيطر الأمريكيون على شركة النفط الفنيزويلية, وأغرقت الأسواق الفنيزويلية بالاستثمارات الأمريكية النفطية. وبالمقابل قامت فينيزويلا باستثمارات ضخمة في الولايات المتحدة خاصة في قطاع التكرير. في الوهلة الأولى يمكن للمتأمل أن يرى في هذه الاستثمارات تحسن العلاقة بين البلدين, ولكن إذا كررنا النظر نجد أنه تم عزل فينيزويلا عن أوبك, وأصبحت فينيزويلا شوكة في حلق أوبك كان من نتائجها انخفاض أسعار النفط عام 1998. فقد أصرت فينيزويلا على تجاوز حصتها الإنتاجية لدرجة أن كمية التجاوز بلغت أكثر من مليون برميل يومياً. وسر الرئيس كلينتون بهذه النتيجة التي ساعدت النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة ليصبح أطول فترة نمو اقتصادي تشهدها الولايات المتحدة في تاريخها. ولكن في نفس الفترة عانت دول أوبك من أسوأ فترات الكساد في تاريخها. فجاء شافيز وخفض إنتاج فينيزويلا وخفض طاقتها الإنتاجية, ولم يلتزم بالحصص الإنتاجية لفنزويلا فحسب, بل أيد بشدة ضرورة تخفيض الإنتاج ورفع أسعار النفط. أمر لن تغفره الإدارة الأمريكية. وخطر مواقف شافيز لا يعود إلى كونه يريد تخفيض الإنتاج لأنه الموقف الأمثل لفنزويلا, بل لأنها تعود إلى أفكاره اليسارية التي ترى أن النفط الفنزويلي مستغل من قبل قوى إمبريالية عالمية تتمثل في الولايات المتحدة.
وجاء شافيز كردة فعل على الفساد الرهيب الذي عمّ فينيزويلا وشركة النفط الفنزويلية التي أصبحت دولة داخل دولة (العالم العربي مازال بخير مقارنة بفنزويلا). وجاء ليسترد حق الفقراء الذي يمثلون غالبية الشعب الفنيزويلي. فقراء بلا مأوى, بلا ماء, بلا كهرباء, و بلا مدارس, في الوقت الذي ينفق فيه مدراء في شركة النفط الفنزويلية على عائلاتهم شهرياً ما يكفي لبناء مدرسة! أما على المستوى الأمني فإن فنزويلا كانت من أخطر بلاد العالم من ناحية السرقات و الإجرام, نتيجة للفقر من جهة, وعدم التعليم من جهة أخرى.
فينيزويلا, من وجهة نظر شافيز, لم تستفد من زيادة التعاون مع الولايات المتحدة, بل على العكس زادت الطبقية و زاد الفساد في تلك الفترة. لذلك اهتمت أمريكا بالأمر لأن أفكار شافيز ستجد ملايين العقول التي تتبناها, الأمر الذي يتطلب التخلص منه بأسرع وقت ممكن. إن الرئيس صدام حسين غير مهم الآن.
ولكن الحرب مع شافيز تختلف عن الحرب مع صدام, ففي الوقت الذي طغت فيه أخبار احتمال الهجوم على العراق على وسائل الإعلام, لم تحظ فينيزويلا بأي شيء يذكر سوى أخبار الانتقادات و الإضرابات. وستكون مشاركة الحكومة الأمريكية سرية للغاية بعيداً عن الضجة الإعلامية لسببين, الأول وجود ملايين الأمريكيين من أصول لاتينية, لذلك لا يمكنها توظيف الإعلام لمهاجمة فنزويلا, والثاني أن شافيز قد فاز بانتخابات حرة ونزيهة, ولا تريد الولايات المتحدة أن تظهر بمظهر المعادي للديمقراطية.
ولعل الخطوات الأولى للإطاحة بشافيز قد وجدت طريقها إلى الشارع في كاراكاس حيث تقوم مظاهرات يومية ضد شافيز, يقابلها مظاهرات مؤيدة له. وفي الوقت نفسه قام أربعة جنرالات في الجيش والقوات الجوية و القوات البحرية بانتقاد شافيز علناً ومطالبته بالاستقالة. وسيقوم عمال النفط في شركة النفط الفنزولية بالإضراب بين عشية وضحاها. الأمريكيون في مأزق حرج لأن شافيز لم يصل إلى كرسي الرئاسة عن طريق انتخابات نزيهة فقط, بل يسمح بانتقاده ويسمح للمظاهرات المضادة أن تجول شوارع كاراكاس. وهو أمر لا يقبله اليساريون عادة والذين عرفوا تاريخياً بعنفهم ودمويتهم. وقد هدد شافيز باستخدام قوانين الطوارئ إذا أضرب عمال شركة النفط الفنزويلية, خطأ كبير من جانب شافيز لأن كل ما تريده منه الولايات المتحدة الآن هو أن يظهر بمظهر ديكتاتوري, وقوانين الطوارئ ستحقق لهم هذه الفرصة. ترى هل ستنجح الولايات المتحدة في إسقاط شافيز؟ “وإن غداً لناظره قريب“!
Comment