درس من عام 2005: حرورا أسعار البنزين
أنس الحجي
نشر هذا المقال منذ حوالي 12 عاما في جريدة “الاقتصادية” في بداية عام 2006.
قدم عام 2005 دروساً عديدة في مجال النفط والغاز أهمها أنه يمكن للحكومات تفادي الأزمات النفطية إذا قصرت دورهها على تصحيح الخلل في الأسواق الناتج عن عوامل خارجية مثل العوامل الطبيعية. و من هذه الدروس أن تدخل الحكومات في تسعير المنتجات النفطية لا يؤثر سلباً على النمو الاقتصادي فقط، بل قد يدمر الاقتصاد الوطني. لهذا فإن أسعار النفط في عام 2006 تعتمد على ردود فعل الحكومات لأسعار النفط ومدى تدخل الحكومات في تسعير المنتجات النفطية.
مسوغات التسعير و التدخل الحكومي
تاريخياً، قامت حكومات كثيرة, بما في ذلك الحكومات الخليجية، بتحديد أسعار المشتقات النفطية في مستويات لا تعكس القيمة السوقية لهذه المشتقات و بحدود أدنى من سعرها العالمي بكثير. بعبارة أخرى, دعمت هذه الحكومات مستهلكي البنزين و الديزل و غيرها عن طريق توفيرهذه المواد بأسعار مخفضة للمستهلكين. قد يرى البعض أن هذا النوع من الدعم يسهم في مساعدة الطبقات الفقيرة في المجتمع و أصحاب الدخل المحدود. و يرى آخرون أن دعم بعض أنواع وقود التدفئة، خاصة الديزل (المازووت)، يسهم في تخفيف عبء تكاليف التدفئة على الأسر الفقيرة في المناطق الباردة. أما في الدول المنتجة للنفط فإن البعض يسوغ دعم أسعار المشتقات النفطية بأنه نوع من مشاركة الجميع في الثروة الوطنية. و هناك فئة تنادي بالتدخل الحكومي في التسعير في حالات ارتفاع الأسعار، خاصة إذا كان هناك شعور ياستغلال شركات النفط و التوزيع للمستهلكين.
مامدى صحة هذه الإدعاءات؟ وهل يؤدي التدخل الحكومي في التسعير إلى مساعدة الفقراء وحماية المستهلكين؟ هل دعم أسعار البنزين يساعد الفقراء الذين لا يملكون السيارات أو يملكون سيارة واحدة فقط، أم يساعد الأغنياء الذين يملكون عدداً أكبر من السيارات التي عادة ماتكون من السيارات الكبيرة المشهورة باستهلاكها الكبير للبنزين؟ هل هو دعم لأصحاب الدخل المحدود أم أصحاب الشركات والمصانع؟ هل هو دعم للمستهلك المحلي أم للعصابات التي تقوم بتهريب المشتقات النفطية إلى الدول المجاورة التي تبلغ فيها أسعار هذه المشتقات أضعافاً مضاعفة؟ وهل يؤدي الدعم إلى توافر هذه المشتقات أم إلى ندرتها بسبب التهريب من جهة، وبسبب الخسائر التي يمكن أن تتكبدها شركات التوزيع من جهة أخرى؟ أليست خسارة هذه الشركات خسارة للاقتصاد القومي؟ وهل تحديد أسعار المنتجات النفطية بأقل من سعرها العالمي في دول الخليج مشاركة في الثروة القومية؟ هل يشارك الفقير الذي لا يملك سيارة في هذه الثروة؟ ما هي المسوغات التي تجعل الغني في هذه الدول يستفيد، عبر التسعير الحكومي، من الثروة النفطية بشكل أكبر من الفقير؟ هل يسهم تخصيص جزء كبير من الموازنة لدعم أسعار البنزين والديزل في التنمية الاقتصادية؟ هل انفاق هذه الأموال في حرق البنزين والديزل أفضل من انفاقها في بناء المدارس و الجامعات؟ هل الفقراء أفضل حالاً إذا دفعوا ثمناً أقل للبنزين والديزل، أم إذا و جدوا فرصاً لتعليم و تدريب ابنائهم؟ إن تجارب عام 2005 في كل من سوريا والإمارات العربية وولاية هاواي الأمريكية تشير إلى أن تدخل الحكومة في التسعير لا يدمر الاقتصاد الوطني فقط، بل قد يؤدي إلى تغيير البنية الاجتماعية أيضاً.
سورية
لا تعاني سورية من ندرة مادة الديزل (المازووت) بسبب عدم توافرها أصلاً، وإنما تعاني من الندرة بسبب تهريب هذه المادة الحيوية إلى الدول المجاورة مثل لبنان وتركيا. لماذا تقوم العصابات بتهريب الديزل إلى هذه الدول؟ بسبب تسعير الحكومة السورية للديزل في مستوى يقل عن مستواه في الدول المجاورة بحوالي سبعة مرات تقريباً. من المستفيد في النهاية؟ العصابات التي تحقق أرباحاً هائلة. من الخاسر؟ المجتمع السوري بسبب عدم توافر هذه المادة من جهة, و بسبب تخصيص جزء كبير من الميزانية قد يصل إلى 17 في المائة لدعم المشتقات النفطية، أو بالأحرى دعم عصابات التهريب، ثم انفاق جزء من هذه الموازنة لتطبيق القانون ومحاربة التهريب ومعاقبة المخالفين. أليس من الأفضل تحرير الأسواق وتحويل هذا الجزء من الموازنة لخلق فرص تعليمية ووظيفية للمجتمع السوري؟ أليس من الأفضل للشعب السوري أن يدفع سعراً أعلى للمشتقات النفطية وتحويل كميات الدعم الهائلة لتحسين البنية التحتية؟ ألا يؤدي هذا إلى تغيير البنية الاجتماعية بسبب عدم قدرة بعض الطبقات على شراء المواد النفطية في السوق السوداء بسبب غلائها وعدم توافر الخدمات الأساسية لها؟ ألم يؤد الدعم إلى خلق طبقة جديدة من العصابات التي أصبح لها وزناً سياسياً بسبب تفشي الرشاوي والفساد الإداري؟
الإمارات العربية
كادت عجلة اقتصاد الأمارات أن تتوقف في عام 2005 لولا قيام الحكومة برفع أسعار المشتقات النفطية مرتين, كان آخرها رفع أسعار المشتقات بمقدار 30 في المائة. نتج عن تحديد الحكومة لأسعار المشستقات النفطية في وقت ارتفعت فيه أسعار النفط في عام 2005 بمقدار 40 في المائة إلى خسارة شركات توزيع المحروقات لمئات الملايين من الدراهم، الأمر الذي أجبر الشركات على الإعلان عن إغلاق أبواب محطاتها ما أجبر الحكومة على رفع الأسعار لتخفيف الخسائر. كاد اقتصاد الإمارات أن يصاب بشلل كامل لو تم فعلاً إغلاق هذه المحطات. كل هذه الأمور ما كان لها أن تحصل لولا تدخل الحكومة في التسعير. ورغم رفع الأسعار وعدم إغلاق المحطات، إلا أن استمرار الحكومة بالتحكم في أسعار المشتقات النفطية أدى إلى انسحاب الشركات الأجنبية من سوق المشتقات الأماراتي. كما أنه سيؤدي إلى مشكلة كبيرة في المستقبل عندما تنخفض أسعار النفط لأن الشركات ستحقق أرباحاً هائلة على حساب المستهلك. ماهي الفائدة من دفع أسعار أقل للمشتقات النفطية إذا كانت هذه الأسعار ستهدد الاقتصاد الوطني وتشل حركته؟
هاواي
مع الارتفاع الكبير في أسعار البنزين في الولايات المتحدة الأمريكية بعد إعصاري كاترينا وريتا، قررت ولاية هاوي تحديد سقف سعري منعت فيه محطات البنزين من تجاوزه، في وقت استمرت فيه أسعار النفط والبنزين بالارتفاع فوق ذلك الحد في شتى أنحاء العالم. كانت النتيجة سيئة للغاية، خاصة أن هاواي تعتمد على السياحة وتوافر وسائل النقل. فقد امتنعت شركات التوزيع عن توفير كميات كافية من البنزين والديزل للولاية لأن تكاليفهما أعلى من السعر الذي حددته الحكومية المحلية. الحكومة هدفت إلى مساعدة المستهلكين، ولكنها في النهاية حرمت المستهلكين من الحصول على مايريدون.
الولايات المتحدة تتعلم من تاريخها
امتنعت الحكومة الفدرالية وكافة حكومات الولايات الأمريكية، ماعدا حكومة هاواي، عن التدخل في تسعير المشتقات النفطية رغم ارتفاع الأسعار بشكل متسارع إلى مستويات تاريخية بعد أن أغلق إعصار كاترينا 11 مصفاة للنفط وخسرت الولايات المتحدة ثلثي إنتاج النفط في خليج المكسيك. في هذه الحالة قامت الأعاصير بالتأثير على أسواق النفط و كان من الضروري تصحيح مسارها. لذلك قامت الحكومة الأمريكية, بالتعاون مع وكالة الطاقة الدولية، بسحب 30 مليون برميل من الاحتياطي الاستراتيجي. كما قامت بتعطيل بعض القوانين البيئية للسماح باستيراد المزيد من البنزين.
مكن هذا المزيج من السياسات الولايات المتحدة من تفادي أزمة نفطية كادت أن تودي باقتصادها. فعدم التدخل في التسعير مكنها من الاستفادة من كل المزايا الديناميكية والقدرة على التأقلم التي تتمتع بها الأسواق الحرة. أما استخدام الاحتياطي وتعطيل بعض القوانين البيئية فقد مكنها من تعديل وتصحيح مسار الأسواق الحرة التي تأثرت بالأعاصير.
النتيجة كانت مذهلة بكل المقاييس. فقد انخفضت أسعار المشتقات النفطية بأكثر من 34 في المائة, رغم عدم عودة الإنتاج الأمريكي إلى ما كان عليه حتى يومنا هذا. بناء على كمية الإنتاج التي خسرتها الولايات المتحدة، كان من المفروض أن ترتفع أسعار البنزين بمقدار 3 أضعاف، و لكنها انخفضت بدلا من أن ترتفع.
لم تتبن الولايات المتحدة هذه السياسات نتيجة ذكاء حاد ووعي اقتصادي عميق، بل تبنتها بعد أن تعلمت دروساً قاسية، وتكبدت خسائر مالية فادحة، بسبب التدخل الحكومي في التسعير. فقد قامت الولايات المتحدة بتحديد أسعار المشتقات النفطية في السبعينيات، الأمر الذي أدى إلى نقص الإمدادات ووقوف السائق الأمريكي في طوابير طويلة لعدة ساعات لكي يحصل على جزء مما يرغبه من البنزين. كما أدى إلى خسارة الولايات المتحدة لعشرات المليارات التي ذهبت من خزانة الحكومة إلى جيوب فئات محدودة تمثلت في بعض تجار النفط وشركات الشحن البحري العالمية.
إن من أهم دروس عام 2005 أنه يجب تحرير أسعار المشتقات النفطية في دول الخليج بحيث ترتفع مع ارتفاع أسعار النفط وتنخفض مع انخفاضها. لن تكون هناك أزمة نفطية في أي دولة في 2006 إلا إذا قامت الحكومة بالتدخل في التسعير. إن الأسواق كفيلة بحل المشكلة, خاصة إذا اقتصر دور الحكومات على تعزيز دور هذه الأسواق و تصحيح الخلل فيها.
Comment