بمناسبة الذكرى الـ 50 لتأسيس «أوبك»: «أوبك» أضعف من منظمات المواد الأولية الأخرى (21)
أنس بن فيصل الحجي
تم في مقال الأسبوع الماضي استعراض أدلة الرأي القائل بأن ”أوبك” منظمة احتكارية, أو كما يقال في الإنجليزية ”كارتل”، وتبين عندها أن كلمة ”كارتل” تستخدم في الغرب للانتقاص من ”أوبك” لأنها ترمز إلى مصاصي الدماء الذين يستغلون حاجات الناس. وقبل استعراض أدلة الرأي المعاكس القائل بأن ”أوبك” ليست كارتل، لا بد من استعراض الفروق الأساسية بين ”أوبك” والكارتل كما هو معروف في الأدبيات الاقتصادية من جهة، وبين ”أوبك” ومنظمات المواد الأولية الأخرى التي تعد كل منها ”كارتل” من جهة أخرى.
رغم أن أدبيات نظرية الاحتكارات العالمية ليست متقدمة كغيرها من الفروع في علم الاقتصاد، ورغم أن كل كارتل فريد من نوعه، إلا أن دراسة وافية لهذه الأدبيات ولكل المنظمات الاحتكارية العالمية تبين أن هناك ست خصائص للكارتل. وسيتم في هذا المقال والذي يليه سرد هذه الخصائص، ومقارنة ”أوبك” بست منظمات احتكارية للمواد الأولية هي الألماس، القهوة، البوكسايت، القصدير، المطاط، والنفط.
الخصائص الـ 6 للكارتل
هناك ست خصائص لا يكتمل الكارتل إلا بها, وهي وجود حصص إنتاجية، و نظام مراقبة للحصص، ونظام عقوبات لمنع انتهاك الحصص، ونظام قانوني يعطي المنظمة صلاحية السيطرة على الإنتاج في الدول الأعضاء، ومخزون من السلعة التي ينتجها الكارتل ورصيد نقدي للدفاع عن السعر الذي يحدده الكارتل، وحصة سوقية كبيرة تمكن الكارتل من السيطرة على السوق.
- وجود نظام للحصص إنتاجية: عادة ما يقوم الكارتل بتقسيم السوق وإنشاء نظام للحصص الإنتاجية منذ لحظة ولادته. فإذا نظرنا إلى منظمة منتجي القصدير والمجلس الدولي للقصدير، وكل اتفاقيات القصدير اللاحقة، نجد أنها كلها بدأت بتقسيم الحصص الإنتاجية بين الأعضاء. والأمر نفسه ينطبق على منظمة القهوة الدولية وكل الاتفاقيات المتعلقة بالقهوة، إضافة إلى الألماس والمطاط والبوكسايت. حتى المنظمات الاحتكارية التي انهارت مثل كارتل السكر، واتفاقية القمح في عام 1933، وكارتل النحاس الدولي، واتفاقية الكاكاو الدولية، ولجنة الشاي الدولية، بدأت بتقسيم الحصص الإنتاجية على الدول الأعضاء منذ ولادتها. لكن ”أوبك” لم تتبن أي حصص إنتاجية إلا في عام 1982، بعد 22 عاما من إنشائها. حتى بعد ذلك، لم يلتزم الأعضاء بهذه الحصص. إن عدم وجود حصص إنتاجية في ”أوبك” خلال 22 سنة الأولى من عمرها يعد ضربة قاصمة للرأي القائل إن ”أوبك” منظمة احتكارية. ولا يمكن القول إن ”أوبك” أصبحت منظمة احتكارية بعد تبني نظام الحصص عام 1982 لأن هناك اتفاقا بين الخبراء على أن أسواق النفط شهدت منافسة حادة في الثمانينيات أدت إلى انهيار أسواق النفط في منتصف ذلك العقد، ولا يمكن وصف سوق منافسة بأنها احتكارية. وإذا نظرنا إلى السنوات الأخيرة، يمكن للبعض أن يقول إن ارتفاع أسعار النفط يعود إلى التزام ”أوبك” بالحصص الإنتاجية. ويرد على ذلك بأنه طوال تلك الفترة كانت هناك دول تنتهك الحصص الإنتاجية، وأن أفضل التزام وصلت إليه ”أوبك” هو 70 في المائة، لكن هذا المستوى لم يدم طويلا. ويتضح من البيانات أن التخفيض جاء من دول معينة، التي غطى تخفيضها عن تخفيض الآخرين. بعبارة أخرى، الالتزام جاء رغبة من بعض الدول، ولم يكن بسبب ”أوبك” كمنظمة.
- وجود نظام مراقبة صارم للحصص الإنتاجية لمعرفة الأعضاء الذين يتجاوزون حصصهم الإنتاجية: بعد تعيين الحصص، يقوم الكارتل بإنشاء نظام مراقبة صارم تابع للكارتل ومستقل عن الدول الأعضاء للتأكد من التزام الدول الأعضاء بالحصص الإنتاجية. كارتل القهوة قام بتوظيف شركة خارجية لمراقبة صادرات الدول الأعضاء، كما طبق نظاما تطلب وجود شهادة تصدير على كل شحنة لتسهيل المراقبة. ويجبر كارتل المطاط الدول الأعضاء على حصول شهادة منشأ لكل شحنة. أما كارتل الألماس فإن له طريقته الخاصة, حيث كان يقوم بشراء كل الألماس من كل المنتجين حول العالم وفق عقود صارمة، ثم تقوم بتوزيع الألماس على الأسواق العالمية بكميات تقل عن الطلب. لم تقم ”أوبك” بإنشاء نظام للمراقبة لعدم وجود نظام حصص إنتاجية، لكنها حتى عندما تبنت نظام الحصص، لم تنشئ نظام مراقبة إلى بعد ذلك بنحو ثلاث سنوات، وذلك عندما أنشأت لجنة وزارية للمراقبة. هذا يعني أن ”أوبك” لم تتبن نظام مراقبة إلا بعد 25 سنة من إنشائها. لكن حتى هذه اللجنة لم تكن فاعلة مثل نظم المراقبة التي اتبعتها المنظمات الأخرى. ففي الوقت الذي كانت فيه نظم المراقبة في المنظمات الأخرى مطبقة طوال الوقت، كانت لجنة ”أوبك” الوزارية للمراقبة لا تعمل إلا إذا كان هناك شك في تجاوز بعض الدول، فتقوم اللجنة بالتأكد من ذلك، من دون وجود شهادات منشأ أو رخص تصدير.
- وجود نظام عقوبات يمكن المنظمة من معاقبة الأعضاء المخالفين للحصص الإنتاجية والأمور الأخرى,. فكارتل القصدير خفض الحصص الإنتاجية للدول المنتهكة لحصتها، وكارتل القهوة قام بتخفيض الحصص المستقبلية بقدر التجاوز، وإذا تم اكتشاف تجاوز الدول الحصة الإنتاجية مرة أخرى فإن العقوبة تشتد حيث يتم تخفيض الحصص المستقبلية بمقدار ضعف كمية التجاوز. وإذا استمرت الدولة في تجاوز الحصص الإنتاجية فإنه يتم طردها من المنظمة بتصويت ثلثي الأعضاء لمصلحة الطرد. هذا الطرد يحرم الدولة من أسواق معينة، ويخفض إيراداتها. أما كارتل الألماس فإن العقوبة شديدة جدا, حيث تقوم شركة دي بيرز، التي تتزعم كارتل الألماس العالمي، باستخدام المخزون الضخم من الألماس لديها وإغراق الأسواق بالنوع الذي لدى الدولة التي تنتهك الحصص الإنتاجية أو الدولة التي تحاول أن تترك الكارتل. هذا يعني أن ”دي بيرز” تستطيع تخفيض سعر نوع معين من الألماس من دون التأثير في أسعار الأنواع الأخرى، وبذلك تستطيع التحكم في الأعضاء كافة. ففي عام 1981 قامت ”دي بيرز” بإغراق الأسواق بنوع معين من الألماس تنتجه زائير، وذلك عندما قررت زائير تسويق ألماسها وحدها. هذا الإغراق كاد يخنق الاقتصاد الزائيري في ذلك الوقت وأجبر الحكومة الزائيرية على الخضوع لأوامر الشركة. كما استخدمت العقوبة نفسها ضد إسرائيل في بداية التسعينيات، وخضعت إسرائيل لأوامر الشركة. كما يعرف الجميع، فإن ”أوبك” ليس لديها أي نوع من العقوبات، وبذلك لا تستطيع إجبار أي دولة على الالتزام بحصصها الإنتاجية، الأمر الذي ينفي كون ”أوبك” ”كارتل”.
إلا أن بعض الباحثين أشار إلى أن قيام السعودية بإغراق أسواق النفط العالمية عام 1986 كان بمنزلة عقوبة لدول ”أوبك” التي انتهكت حصصها الإنتاجية، كما أن غزو العراق للكويت عام 1990 كان أيضا عقوبة على تجاوز الكويت حصصها الإنتاجية في ذلك الوقت. حتى لو سلمنا بأن ما حدث كان عقوبة على تجاوز الحصص الإنتاجية فإن الحقيقة هي أن ”أوبك” كمنظمة ليس لديها نظام عقوبات ولم تتبن هذه ”العقوبات” التي يفترض أن السعودية والعراق قامتا بها.
وسيتم في المقال القادم سرد بقية الصفات ــ بإذن الله.
Comment