الانعكاسات السياسية لكلمة “نفط” في التراث العربي
أنس بن فيصل الحجي
يؤكد الأدب الغربي, بما في ذلك من الدراسات الاقتصادية والسياسية والقانونية والاستراتيجية والتاريخية, على أن الولايات المتحدة كانت أول من قام باكتشاف واستخراج النفط بكميات تجارية عندما قام كولونيل “دريك” باكتشاف النفط في تتزفيل في شمال غرب ولاية بنسلفانيا في عام 1859. و يفخر الأمريكيون بعلمائهم اللذين قاموا بتكرير النفط الخام واستخراج مادة الكيروسين منه, أو أولئك اللذين استخدموا النفط الخام ومشتقاته في عمليات التشحيم. وتشكل صناعة النفط الأمريكية جزءاً من تاريخ الولايات المتحدة الذي أثر في حياة الملايين من الأمريكيين بسبب الملكية الخاصة لحقول النفط. ونظراً لهذا التراث الكبير وسيطرة شركات النفط الأمريكية على صناعة النفط العالمية وقيامها مع بعض الشركات الأوروبية باكتشاف النفط في الخليج, فإن عدداً من الأمريكيين يعتقدون أن نفط الخليج هو “نفطهم” لأنهم هم الذي وجدوه واستخرجوه, ثم قامت دول الخليج بالاستيلاء على النفط بعد طرد الشركات العالمية من المنطقة. لهذا فإنه من السهل أن يقوم الساسة الأمريكيون وراسمي السياسات و غيرهم بتسويغ التدخل الغربي في المنطقة.
وعلى الرغم من أننا لا ننكر دور الأمريكيين في صناعة النفط العالمية الحديثة, وخاصة دور معهد النفط الأمريكي, إلا أن هناك إجحافاً لا يمكن السكوت عنه في حق العرب الذين اكتشفوا النفط وأهميته وعرفوا مواصفاته وطرق تكريره قبل الغرب بعدة قرون. كما قاموا بإيجاد إطار قانوني يحكم طرق استخراجه ووضعوا الضرائب عليه قبل الولايات المتحدة بعد قرون أيضاً. والمتصفح للكتب الغربية يستنتج بسهولة أن الثقافة الغربية تجاهلت تماماً, بقصد أو بغير قصد, العلاقة التاريخية بين العرب والنفط حيث تنتقل الكتب والمقالات من الحديث عن وجود النفط في منطقة الرافدين قبل الميلاد إلى العصر الحديث ودور الشركات الغربية حيث يتجاهلون بشكل فاضح آلاف السنين من الحضارة ودور النفط فيها.
و على الرغم من أنه لا يوجد أي أدلة تاريخية لمعرفة من أول من اكتشف النفط وعرف خصائصه, إلا أن التراث العربي القديم قد يكون الوحيد ضمن ثقافات العالم الذي دخل فيه “النفط” ومرادفاته في لغته لدرجة انتشار هذه الكلمة في الأمثال والأشعار والأسماء والألقاب. وهناك عدة شعراء جاهليين ذكروا النفط في قصائدهم بتعبير أو بآخر.
إن وجود هذه الكلمة في التراث العربي القديم هو بيت القصيد لأن لوجودها واستخدامها في التراث العربي انعكاسات سياسية. فهي تؤكد عدم صحة ادعاءات الغربيين من جهة, وتؤكد حق العرب التاريخي في نفطهم من جهة أخرى. وهنا لابد لنا أن نذكر أن اهتمام الغربيين بالنفط في المنطقة يعود إلى قيام تاجر عربي من البحرين بذكر النفط لمسؤول مشتريات في الجيش البريطاني عندما التقاه في أديس ابابا. فقرر هذا المسؤول ترك وظيفته وذهب للبحث عن النفط في الخليج.
والمثير في الأمر أن كلمة “نفط” في اللغة العربية قديمة جداً وأقرب وصفاً لحقيقة النفط من الكلمات التي استخدمها الأوروبيون. الأمر الذي يدل على معرفة العرب لطبيعة النفط منذ أكثر من ألفي سنة،. فقد رأى الأوروبيون النفط فسموه على ظاهره و ببساطة “بتروليوم” أو “زيت الصخر” لأنه كالزيت الذي ينساب من الصخر. أما العرب فسمته نفطاً, وهي تسمية لا تتسم بالبساطة مثل التسمية الأوروبية لأنها تعبر عن عدد من خصائص النفط, أهمها رفض مفهوم أن النفط هو عصارة الصخر, وإنما عنصر مستقل له صفاته الخاصة. وتشير بعض المراجع على أن أصل كلمة “نفط” هو من كلمة “نبت”, وهو أقرب إلى وصف النفط من كونه “زيت الصخر”, وأقرب إلى كونه مادة عضوية. وهذا لاينفي بالطبع احتمال أن العرب أخذوا الكلمة من ثقافات أخرى، أو أن الكلمة تسربت للغة العربية من لغات قديمة.
وهناك عدة معان لكلمة نفط في اللغة العربية. فإذا كان النفط شيئاً فإنه يعني البترول, و إذا كان النفط صفة فإنه يأتي بمعنى الغضب الشديد أو الغليان أو العطس. فيقال فلان ينفط, والقِدر تنفط, ونفطت الماعزة أي عطست. وورد أيضاً أن النفط يعني البثور المليئة بالماء التي تظهر في اليد نتيجة العمل. ومن الواضح أن هذه التعاريف متشابهة, حيث تعني كلها الخروج بقوة وعنف, مثل العطس والغليان. كما أن وضع الكمائن النفطية يشبه كثيراً وضع البثور الجلدية، وإن كان هذا المفهوم يعد مفهوما حديثا لم يدركه الناس في ذلك الوقت. وجاء النفط بمعنى القار, والقار هو أحد أنواع النفط. ذكر ابن منظور في لسان العرب: القارُ وهو شيء أَسود تطلى به الإِبل والسفن يمنع الماء أَن يدخل.
وعرفت العرب الصفات الأساسية للقار فربطت بين القار وشدة سواده واستحالة تغير لونه, فذكروا العديد من الأمثال في هذا المجال مثل “لا أفعله حتى تبيّضُّ جُونةُ القار”. و ذكر ابن رشد في شرح البرهان “وكذلك حمل البياض على الثلج ، والسواد على القار”. و يستخدم المثل السابق للتعبير على استحالة رغبة الشخص بفعل شيء ما. وورد في لسان العرب “لا أَفعله حتى تَبْيضَّ جُونةُ القار؛ هذا إذا أَردت سوادَه، وجَوْنةُ القار إذا أَردت الخابية، ويقال للخابية جَوْنة، وللدَّلْو إذا اسودَّت جَوْنة”.
و قال مُعاَوية الضَّبِّيُّ:
فهذا مَكاني، أَو أَرَى القارَ مُغْرَباً، وحتى أَرَى صُمَّ الجبالِ تَكَـلَّـمُ
وذكر في لسان العرب أن المُغْرَبُ هو الأَبيضُ ومعنى البيت أَن الشاعر وَقَعَ في مكان لا يَرْضاه، وليس له مَنْجىً إِلاّ أَن يصير القارُ أَبيضَ، وهو شِبه الزفت، أَو تُكَلِّمَه الجبالُ، وهذا ما لا يكون ولا يصح وجوده عادة.
إن الأمثلة السابقة توضح أن النفط كان معروفاً لدى عامة العرب في حياتهم اليومية لدرجة أنهم استخدموه في أمثالهم و أشعارهم.
لقد ضاع جزء كبير من إرث علماء العرب, خاصة في مجال الكيمياء, في فترة العصر العباسي بعد دخول المغول لبغداد. ولكن بقايا قصيدة أو قصة قد توحي لنا بأشياء كثيرة. فالشعر له وظائف عدة. وما الوظائف الأساسية للإعلام اليوم إلى وظائف قام بها الشعر على مر القرون. و لعل أهم وظيفة للشعر أنه حافظ على جزء من تاريخ الأمة. من بين أبيات الشعر نستقرأ التاريخ ونستشهد على أحداث لم يذكرها التاريخ. و للأبيات أدناه أهمية تاريخية و انعكاسات سياسية واجتماعية عديدة, حتى في وقتنا الحالي, رغم أنها قيلت منذ مئات السنين. إن أهم انعكاس للأبيات هو أن المسلمين في بغداد عرفوا النفط, كغيرهم, ولكن الأبيات, بالإضافة إلى دلائل أخرى من كتب التاريخ والفقه, تشير إلى أن المسلمين أول من أوجد كيان قانوني وإداري لاستغلال النفط. وقاموا بالحفر واستخراج النفط من مكامن سموها “نفاطات”. و ما مدينة “القيارة” في جوار بغداد إلا مدينة استمدت اسمها من القار بسبب وجود عدة نفاطات في المنطقة. وما “ذي قار” إلا منطقة انتشر في النفط في سبخات على وجه الأرض.
ونظراً لانتشار “القيارات” و”النفاطات” في العصر العباسي وكثر الاستثمار في القطاع النفطي, قام الخليفة بتعيين “والي” للنفاطات لتنظيم أمرها والإشراف عليها تشبه وظيفته وزير النفط في عصرنا الحالي. والأبيات وردت في “ربيع الأبرار” للزمخشري, كما ذكرها البيهقي في “المحاسن والمساوئ” تحت باب “مساوئ الولايات”.
كتب عبد الصمد بن المعذّل إلى صديق له وليَ النفّاطات فأظهر تيهاً وتجبراً:
لعمري لقد أظهرت تيهاً كأنما توليت للفضل بن مروان منبرا
وما كنت أخشى لو وليت مكانه علي أبا العباس أن تتـغـيرا
بحفظ عيون النفط أحدثت نخوة فكيف به لو كان مسكاً وعنبرا
دع الكبر واستبق التواضع إنه قبيح بوالي النفط أن يتكـبـرا
و كنت قد ذكرت الأبيات وقصتها لأحد أشهر علماء قوانين الطاقة في وقتنا الحالي, وهو بريطاني يعمل مستشاراً قانونياً للبنك الدولي وعدد من الدول النفطية, فاندهش للغاية. فالغربيون يعتقدون أنهم أول من أوجد كيان قانوني لاستغلال النفط في نهاية القرن التاسع عشر. وأكد على أن تنظيم عمليات استخراج النفط في العصر العباسي هو أقدم مرجع سمع به لإطار قانوني لتنظيم عمليات استخراج النفط.
إن للأدب دور في الحوار بين الأمم, كما أن له دور في الدفاع عن الأمة وحقوقها. وفي الأدب العربي أمثلة عديدة للدفاع عن الأمة العربية وحقها في نفطها. وهذا يوضح دور الأدباء الآن في صياغة الفكر العربي النفطي, وهي مهمة لا تقتصر على الاقتصاديين وعلماء القانون فقط, ولكنها تشمل الجميع, حتى الشعراء. وهذا يعني أن “أدب النفط” هو جزء لا يتجزأ من الفكر العربي النفطي.
غوص جميل في أعماق الأدب، واستجلاب مهم لتاريخ له تأثيره البالغ على الحاضر.
شكرا دكتور أنس.
على مقولة
العرب كتبوا القوانين على شكل شعر ، ادربيجان لم يكتبوا التاريخ في 1848، كندا كدالك من تتكتب التاريخ ، امريكا كتبت التاريخ ،
السؤال المطروح من سوف يكتب التاريخ في 2030،؟
كم هي عدد برائات الاختراع المسجلة في هدا المجال و المجال الطاقات المتجددة المنسوبة للعرب ؟
شكرا دكتور أنس. على كل المجهودات المبدولة في مجال الطاقة و منصة الطاقة كدالك