إيران: محمد مصدق وأسباب فشل سلاح النفط
أنس بن فيصل الحجي
هذا المقال نشر منذ أكثر من 15 عام في جريدة الوطن السعودية. وأضفت له ما بين قوسين بسبب بعض المستجدات.
اكتشف الجيولوجيون البريطانيون النفط في إيران في عام 1911 وتم تأسيس شركة الأنجلو-فارسية خصيصاً لذلك. ونتيجة للدور الهام الذي لعبه النفط في الحرب العالمية الأولى, أصر ونستون تشرشل على أن تقوم الحكومة البريطانية بشراء 51% من الشركة كي تتحكم الحكومة البريطانية, ليس بالشركة فحسب, بل بالنفط الإيراني والحكومة الإيرانية.
وأدت عنجهية البريطانيين ومعاملتهم السيئة للإيرانيين إلى كره الشعب الإيراني لهم, والذي طالب بشكل مستمر بطرد البريطانيين وتأميم النفط الإيراني. وتمثل هذا في مواقف الدكتور محمد مصدق, خاصة في عام 1933, عندما حاول الشاه طرده من البرلمان لكي يتمكن من توقيع معاهدات نفطية مع الشركات البريطانية. و لكن آمال الشعب الإيراني لم تتحقق إلا بعد عقود من الزمن عندما قرر البرلمان الإيراني تأميم شركة نفط الأنجلو-فارسية في عام 1951. ولكن القرار لم يطبق فعلياً لعدم توقيع الشاه عليه حتى تم انتخاب محمد مصدق رئيساً للوزراء في آخر شهر إبريل من عام 1951. و كان أول ما قام به مصدق كرئيس للوزراء هو إجبار الشاه على توقيع القرار الذي بدأ مفعوله في أول شهر مايو, بعد أيام من تسلم مصدق لرئاسة الوزارة. وتم تغيير اسم الشركة إلى “الشركة الإيرانية الوطنية للنفط”
وشكل قرار التأميم صفعة شديدة الألم لبريطانيا “العظمى” وسياساتها في المنطقة, خاصة أنها أتت بعد خسائر عديدة منيت بها بريطانيا بسبب اكتشاف الشركات الأمريكية للنفط في كل المحميات الإنكليزية في الخليج.
لقد كانت إيران “البقرة الحلوب” التي كان نفطها يمول جزءاً كبيراً من الميزانية البريطانية, ويحرك الصناعة البريطانية, وعليه اعتمدت البحرية البريطانية والجيش البريطاني. وأدى هذا الدور الهام الذي لعبه النفط الإيراني في حياة بريطانيا إلى لجوء الإنكليز إلى خطة بديلة كانت قد طورتها الحكومة البريطانية خلال السنوات السابقة في حالة تأميم النفط في إيران, أو وصول الشيوعيين للحكم, أو غزو الاتحاد السوفيتي لإيران. و تقضي هذه الخطة باحتلال منابع النفط الإيرانية والسيطرة عليها بالكامل.
ولم تتمكن بريطانيا من اجتياح إيران لأسباب عديدة أهمها استقلال الهند والذي حرم بريطانيا من استغلال الجيش الهندي في احتلال إيران, وعدم رغبة الحكومة البريطانية في تعريض الجنود البريطانيين للخطر في معركة لا تعرف عواقبها, وتخوّف بريطانيا من ردة فعل الولايات المتحدة من اجتياح كهذا, وتخوف بريطانيا والولايات المتحدة من ردة فعل الاتحاد السوفيتي الذي قد يغزو إيران من الشمال لمنع وجود بريطانيا على حدوده.
وقامت بريطانيا بمحاكمة إيران في مجلس الأمن وفي المحكمة الدولية في لاهاي, فقام مصدّق بنفسه, كونه محامياً حاصلاً على الدكتوراه في الحقوق من فرنسا, بالدفاع عن إيران في الأمم المتحدة وفي لاهاي وربح القضية لصالح إيران, الأمر الذي جعله بطلاً قومياً, ليس في إيران فحسب, بل في كافة أرجاء العالم الإسلامي.
وشعرت بريطانيا بحرج موقفها لأن عدم ردها على التأميم يعني تشجيع الدول الأخرى في الخليج على تأميم النفط, وبالتالي انحسار الدور البريطاني في الخليج. وتشير الرسائل والتقارير البريطانية في ذلك الوقت إلى أن بريطانيا أولت اهتماماً كبيراً بتأميم النفط في إيران, ليس بسبب خسائرها في إيران فحسب, بل بسبب احتمال تأميم قناة السويس على إثر ذلك. لذلك قررت القيادة البريطانية في ذلك الوقت استرجاع ما أسمته ب”حقوقها النفطية المغتصبة” بأي ثمن.
و تحولت الخطة إلى قيام بريطانيا باحتلال جزيرة عبادان, والتي تحتوي على أكبر مصفاة للنفط في العالم, خاصة أن أغلب عمالها و مدراءها مازالوا من البريطانيين. ولم يتسن لها ذلك لنفس الأسباب السابقة التي منعتها من احتلال منابع النفط في إيران, ولأن مصدق طلب من كل البريطانيين المغادرة خلال أسبوع, وتم له ما طلب, إلا أن مصفاة عبادان توقفت تماماً عن العمل.
و لم يبق أمام بريطانيا أي خيار سوى أن تطبق حصاراً اقتصادياً على إيران. فحاصرت البحرية البريطانية الموانئ الإيرانية ومنعت السفن من تحميل النفط الإيراني. كما قامت بمنع تصدير كل السلع والخدمات إلى إيران بما في ذلك المواد الغذائية و الأدوية. كما أوقف البنك المركزي البريطاني كل التعاملات المالية مع إيران. وشاركت العديد من الدول الصديقة مقاطعتها لإيران بما في ذلك الولايات المتحدة. من جانب آخر, قامت إدارة شركة نفط الآنجلو-فارسية بإقامة دعاوى قضائية ضد كل ملاك حاملات النفط الذين تمكنوا من تحميل النفط الإيراني, والذي اعتبرته الشركة “نفطاً مسروقاٌ”, ونجحت في إجبار هؤلاء على عدم تحميل النفط الإيراني.
ونتيجة للحصار الاقتصادي/ العسكري, تدهور الاقتصاد الإيراني إلى الحضيض, وتوقفت صناعة النفط الإيرانية, وخسرت الحكومة عائدات النفط. ونظراً لندرة المواد الغذائية و السلع المختلفة, ارتفعت الأسعار داخل إيران بشكل جنوني, وارتفعت مستويات التضخم في عام 1952 إلى درجة لم تشهدها إيران من قبل. لقد كانت إيرادات النفط تمثل نصف إيرادات الخزينة الإيرانية وثلثي الصادرات قبل التأميم, وتلاشت كلها في الأيام الأخيرة من حكم مصدق. لقد كان الهدف الرئيس للبريطانيين هو “تجويع الشعب الإيراني و إفلاس الخزينة العامة”, حسب تعبير أحد مسئولي شركة الأنجلو-فارسية.
وبسبب فشل المفاوضات بين البريطانيين والأمريكيين من جهة, ومصدّق من جهة أخرى, قررت الحكومتان البريطانية والأمريكية التخلص من مصدّق الذي اصبح بطلاً قومياً في إيران. وبدأت المخابرات الأمريكية والبريطانية بإعداد خطة للإطاحة بمصدق وتدبير انقلاب عسكري . وتم تعيين “كيم روزفلت”, حفيد الرئيس الأمريكي “ثيودور روزفلت” لتنفيذ الخطة. وتمكن الحفيد من الوصول سراً إلى إيران ودخول قصر الشاه بعد أن تم لفه ببطانية في أرضية السيارة. ووافق الشاه على الفكرة على أن يقوم قائد الجيش الإيراني فضل الله زاهدي بالانقلاب بعد أن يعلن الشاه رسمياً عزل مصدّق. وعلم مصدّق بالإنباء قبل بدأ تطبيق الخطة, فهيج الناس ضد الشاه وطرده من إيران, وفشلت الخطة الأمريكية البريطانية والتي سميت “عملية أي جاكس”, ولكن مؤقتاً فقط.
لقد أحبَّ الشعب الإيراني بطله القومي مُصدّق, ولكن الشعب يريد أن يأكل, يريد أن يعمل, يريد أن يعيش. لقد أدت المقاطعة الاقتصادية إلى تجويع ملايين البشر, الذين رأوا في بطلهم, الآن وبعد من سنتين من الحكم, صورة أخرى جلبت الجوع والفقر. فاستغلت المخابرات الأمريكية هذه الفرصة, فنظّمت المظاهرات عن طريق دفع أجور لكل من يشارك في هذه المظاهرات (هذه المعلومات من اعترافات المخابرات الأمريكية نفسها). وتمكنت القوى الأجنبية من تأليب جزء من الشعب الإيراني على مصدق في الأيام التالية لطرد الشاه, كما انقلب عليه أصدقائه الذي شاركوا في الانقلاب وأحرقوا منزله, فاضطرّ مصدّق إلى الهروب من باب خلفي, حيث تم القبض عليه فيما بعد, وسيطر زاهدي على الحكم وتم استرجاع الشاه من منفاه في إيطاليا. ويذكر أنه حُكِم على مُصدّق بالسجن لمدة ثلاثة سنوات, ثم وضع تحت الإقامة الإجبارية حتى وفاته في عام 1967. ونظراً للدور الكبير الذي قام به مُصدّق في تغيير مجرى التاريخ, قامت مجلة “التايم” في عام 1951 باختياره رجل العام. كما قامت مجلة “الإيراني” باختياره “رجل القرن” لدوره الوطني في إيران, حيث حصل على 42% من أصوات الإيرانيين في استفتاء أجرته المجلة لاختيار رجل القرن.
بعد سقوط مُصدّق, عادت الشركات البريطانية إلى إيران وتقاسمت ثورة إيران النفطية مع الشركات الأمريكية. ونتج عن عودة شركات النفط العالمية وعودة الشاه حقبة من أشد الحقب سواداً في تاريخ إيران, لدرجة أن منظمة حقوق الإنسان أشارت في تقاريرها إلى ظلم وتعذيب “لم يشهده العالم من قبل”! (طبعا كان هذا قبل مجيء النظام الحالي)
عندما قام مصدّق بتأميم النفط الإيراني في منتصف القرن الماضي, قامت البحرية البريطانية بإغلاق معابر الخليج لمنع النفط الإيراني من التسرب إلى أسواق النفط العالمية. لقد نجح البريطانيون في هذا الحصار لأنهم أحكموا الحصار على الموانئ الإيرانية كما سيطروا على مضيق هرمز. إضافة إلى ذلك, لم تملك إيران في تلك الفترة أسطولاً من ناقلات النفط لنقل نفطها, ولم يكن لديها القوة الحربية الكافية لمنع البريطانيين من السيطرة على الخليج. على إثر ذلك انهار الاقتصاد الإيراني وتم التخلص من مُصدّق و إرجاع الشاه إلى عرشه.
لقد كان من أهم نتائج خسارة الأسواق العالمية للنفط الإيراني, والذي مثل 10% من الإنتاج العالمي في ذلك الوقت, هو زيادة الإنتاج العالمي في السنوات اللاحقة بسبب ارتفاع الأسعار أثناء المقاطعة من جهة, ومحاولة الحكومات حول العالم تأمين مصادر بديلة للنفط الإيراني من جهة أخرى. وعاد النفط الإيراني للأسواق في فترة تم فيها إغراق أسواق النفط العالمية وانخفضت فيه الأسعار بشكل كبير. لذلك لم تستفد إيران لا في البداية ولا في النهاية. لقد انخفض إنتاج النفط الإيراني من 666 ألف برميل يومياً في عام 1950 إلى 20 ألف برميل يومياً في فقط. وفي نفس الفترة زاد إنتاج النفط العالمي بمقدار 2.1 مليون برميل يومياً.
إن أحد أهم شروط المقاطعة, سواء اقتصادية أو نفطية, هو توافر جيش قوي لدعم وتأكيد هذه المقاطعة, و إلا فإنها ستكون كما يقولون “لعب عيال”. إن قيام بعض الدول العربية بمقاطعة نفطية للولايات المتحدة أو غيرها لن يؤدي إلى أي نتيجة, لأنها لا تملك القوة الكافية لمحاصرة شواطئ الولايات المتحدة لمنع وصول النفط إليها. والسؤال الذي يطرح نفسه هو, هل ستفكر دول النفط العربية على الإطلاق في استخدام النفط كسلاح لو كانت جيوشها قوية لدرجة أنها تستطيع التطبيق الفعلي لهذه المقاطعة؟ إن قيام الدول العربية باستخدام النفط كسلاح سيؤدي إلى زيادة إنتاج النفط في المناطق المنافسة, خاصة في روسيا (والآن في الولايات المتحدة), الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض إيرادات النفط, ليس خلال فترة المقاطعة فقط, وإنما لعدة سنوات قادمة.
Comment