إلى متى يا دول النفط؟
أنس بن فيصل الحجي
- أصبحت “الثقافة النفطية” ضرورة استراتيجية لتعزيز الحوار الوطني والقومي والعالمي.
- على الصحفيين العرب التوقف عن استخدام التعبيرات الغربية العدائية مثل “الصدمة النفطية” و “كارتل”
- نشر الثقافة النفطية يتطلب ترجمة البيانات من التقارير العالمية إلى اللغة العربية
تم في مقالات سابقة الدعوة إلى نشر “الثقافة النفطية” وإنشاء “فكر عربي نفطي”, كما تم شرح أهمية ذلك, خاصة من الناحية الوطنية والقومية. وتبين من خلال هذه المقالات أن نشر الثقافة النفطية أصبح ضرورة استراتيجية لكل دولة خليجية لتعميق الحوار على المستويات الوطنية والقومية والعالمية. كما أصبح مهماً في عملية تخليص الشعب العربي من طرق التفكير التآمرية المتعلقة بالنفط. وبما أن النفط مازال نقطة أساسية في الخلاف بين أفراد المجتمعات النفطية من جهة, وبين العرب والغرب من جهة أخرى, فإن النفط جزء أساسي من الحوار بين هذه الفئات. ولا يمكن لأي حوار وطني أو قومي أن يكتب له النجاح إذا كان الفكر التآمري يسيطر على فكر بعض أطراف الحوار. ولا يمكن للحوار العربي-الغربي أن يحقق أي نجاح يذكر إذا كانت المؤامرة تسيطر على فكر أي من الطرفين. لذلك لابد من نشر الثقافة النفطية على نطاق واسع, ولابد من أن تتحمل حكومات الدول النفطية وشركاتها النفطية الوطنية عبئ نشر هذه الثقافة. إن نشر الثقافة النفطية سيؤدي إلى منافع عديدة, وستكون الحكومات و شركات النفط الوطنية المستفيد الأكبر من هذه التوعية. ولاشك أن نشر الثقافة النفطية وتأسيس الفكر العربي النفطي يتطلب مشاركة الجميع بما في ذلك خبراء الاقتصاد والعلوم السياسية والقانون وعلماء الفقه والحديث والتفسير وعلماء اللغة العربية والشعراء والكتاب والصحفيين. لقد حشد الغرب كل علماءه لتكوين فكره النفطي المعادي للعرب, ونحن بحاجة إلى حشد كل قوانا, على الأقل للدفاع عن حقوقنا.
أكدمة العداء للعرب عن طريق الدراسات النفطية
نتج عن تأميم حقول النفط في بعض الدول العربية في بداية السبعينات, و لحرب العربية-الإسرائيلية في عام 1973, والمقاطعة النفطية التي تلت ذلك, وارتفاع أسعار النفط بمقدار أربعة أضعاف بين عشية وضحاها في تلك الفترة, فورة في التغطية الإعلامية في البلاد الغربية لأوبك. كما نتج عن ذلك اهتمام ضخم من قبل الباحثين في علوم السياسة والاقتصاد والقانون بأوبك وسلوكها في محاولة لشرح أسباب ارتفاع أسعار النفط وآثارها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على الدول المستهلكة. ولما استمرت أسعار النفط بالارتفاع في السبعينات زاد اهتمام الباحثين والمؤسسات البحثية الخاصة والعامة بأوبك مما أدى إلى ظهور مئات المقالات والبحوث والكتب التي تعالج موضوع أسواق النفط العالمية ودور أوبك فيها. الغريب في الأمر أنه حتى عام 1973 لم يكن يوجد في الولايات المتحدة إلا شخص واحد متخصص في أسواق النفط العالمية هو موريس إيدلمان, المشهور بعدائه للسعودية. ولكن بحلول منتصف عام 1974 , أي بعد حوالي 8 شهور من بداية المقاطعة النفطية, كان هناك تسعة بحوث أكاديمية منشورة في أرقى المجلات الأكاديمية كتبها أشخاص لا علاقة لهم بالنفط من قريب أو بعيد. المشكلة أن هؤلاء, كونهم أول من بحث في الموضوع, لم يصبحوا خبراء فقط, بل وضعوا الإطار العام للبحوث المستقبلية المتعلقة بأسواق النفط وأوبك, كما أشرف بعضهم على أغلب رسائل الدكتوراه المتعلقة بالنفط. وبما أن الوضع العام في عام 1974 كان متأثراً بحرب رمضان والمقاطعة النفطية العربية, فإن هذه البحوث لم تكن متحيزة ضد العرب فقط, ولكنها, رغم أخطائها النظرية والتطبيقية, حددت مسار البحوث الأكاديمية حتى يومنا هذا.
إن قيام أشخاص أكاديميين غير متخصصين بنشر هذه البحوث ووضع الإطار العام للدراسات المستقبلية في هذا المجال متأثرين بالوضع السائد في عام 1974 أدى إلى أكدمة العداء ضد العرب, ومازال العرب يدفعون ثمن هذه “الأكدمة” حتى يومنا هذا, حتى في إعلامنا “العربي”. ففي الفترات الأخيرة وقعت العديد من الصحف والقنوات الفضائية وبشكل غير مقصود في أخطاء لا تتنافى فقط مع الحقيقة, بل حتى مع الأهداف الوطنية والقومية للشعوب العربية. فقد رأينا البعض يتكلم عن “الصدمة النفطية في السبعينات”, صدمة؟ صدمة لمن؟ إن هذا تعبير غربي ولا يصب على في مصلحة الغرب. و كان الأولى أن يقال “الأزمة النفطية في الدول المستهلكة” أو “الطفرة النفطية في البلاد المنتجة”. ورأينا البعض يذكر كلمة “كارتل”, كما هي بالإنكليزية و لكنها مكتوبة بالعربية, ليصف أوبك بأنها منظمة “احتكارية”, مع أنه وصف يستعمل في الولايات المتحدة للازدراء والتحقير والخروج على القانون. و لكن لا غرابة, ففي غياب الثقافة النفطية في عالمنا العربي ودراسة أغلب المثقفين والصحفيين العرب في الغرب الذي “أكدم” عدائه بشكل يظهر افتراءاته كحقائق في الكتب الأكاديمية, فإنه ليس هناك مصدراً إلا الكتابات الغربية. إن هناك اكثر من 300 كتاب أكاديمي في العلوم الاقتصادية فقط نشرت منذ عام 1974 والتي تستخدم أوبك كمثال على المنظمات الإحتكارية, مع أن أوبك لا تتفق فعلاً مع وصف هذه الكتب للمنظمات الاحتكارية من جهة, و هناك أمثلة أفضل بكثير من أوبك من جهة أخرى. ويكفي أن نعرف أن قوانين محاربة الاحتكار في الولايات المتحدة لا تطبق إلا على الشركات التي تسيطر على أكثر من 80% من السوق, وحصة أوبك تراوحت في أغلب الأحيان بين 30 و 42%! كما أن أكبر حصة سوقية لأوبك لم تتجاوز 56%, ولمدة شهرين فقط. كما يقوم الصحفيون العرب بنقل المقولة الغربية بأن التكلفة الحدية لإنتاج برميل النفط لا تتجاوز الدولارين للبرميل, مع أنه من المعروف في علم الاقتصاد أن التكلفة الحدية لا تستخدم في المصادر الناضبة مثل النفط, و إنما يستخدم مكانها ما يسمى ب”تكلفة الاستعمال”. وتعرف تكلفة الاستعمال بأنها تكلفة إنتاج برميل بديل من النفط, أو تكلفة البديل الذي يعطي نفس الطاقة, وهذه تكلفة مرتفعة جداً. إن التكلفة التي يتكلم عنها الغربيون هي تكلفة اكتشاف النفط و نقله إلى سطح الأرض, ولكنها لا تتضمن سعر النفط نفسه, ولا تتضمن سعر النفط كمصدر ناضب. إن هذا الكم الهائل من الكتب, والتي يدرسها ملايين الطلاب في الجامعات الأمريكية وغيرها يكرس العداء للدول المصدرة للنفط من خلال تلك الأمثلة. ومن سيعارض الآن مئات الكتب وملايين الناس الذي درسوا هذه الكتب. كل هذا والدول المصدرة للنفط مبهورة بهذا الاهتمام الأكاديمي, غير منتبهة أن المهتمين بها يجهزون جنازتها.
“الثقافة النفطية” تتطلب وجود قاعدة بيانات
إن نشر الثقافة النفطية وبناء الفكر العربي النفطي على أسس أكاديمية يتطلب خطوات يقع عاتق بعضها على الجامعات, وبعضها على وسائل الإعلام. ولكن هناك دور كبير للمؤسسات الحكومية يتمثل في إيجاد قاعدة بيانات يتم تحديثها باستمرار. إن وجود هذه البيانات سيساعد الباحثين والطلاب و عموم الناس على حد سواء, كما أنه سيرفع من مستوى الشفافية التي يتطلبها أي اقتصاد حديث ومتقدم. المشكلة الآن أن دول الخليج تفتقر إلى هذه البيانات, خاصة أن البيانات المتوافرة إجمالية و قديمة.
و تقوم بعض الحكومات مثل الولايات المتحدة, وبعض المؤسسات العالمية مثل وكالة الطاقة الدولية وأوبك, و بعض شركات النفط العالمية مثل شركة النفط البريطانية, بنشر بيانات حديثة باستمرار, إلا أنها لا تنشر باللغة العربية. لذلك فإنه ليس أمام الشعوب العربية أي مصدر حديث للبيانات, الأمر الذي يحتم ترجمة التقارير الدولية الصادرة باللغة الإنكليزية إذا كنا جادين في نشر الثقافة النفطية ورفع مستوى الشفافية في الاقتصاديات الخليجية. إن تكلفة ترجمة هذه التقارير أقل تكلفة من قيام الدول الخليجية بإنشاء قاعدة البيانات الخاصة بها, ولكن لابد من إنشاء قاعدة البيانات يوماً ما.
إن الخطوة الأولى في نشر الثقافة النفطية هي تأسيس قاعدة للبيانات, وأسرع طريقة لبناءها هو ترجمة البيانات المنشورة باللغة الإنكليزية إلى العربية وقت إصدارها. ولاشك أن من أشهر التقارير التي يجب ترجمتها مجرد صدروها التقرير السنوي لوزارة الطاقة الأمريكية عن مستقبل الطاقة في العالم, والتقرير المماثل الذي تصدره و كالة الطاقة الدولية. وهنا يجب التنويه إلى أن ترجمة البيانات, رغم التحيز, يختلف تماماً عن ترجمة الدراسات والتحاليل, والتي يتم من خلالها دس السم في العسل.
وخلاصة الأمر أن هناك حاجة ماسة لنشر الثقافة النفطية, ولكن نشرها يتطلب وجود قاعدة بيانات حديثة باللغة العربية. ونظراً للتكلفة العالية التي تصاحب بناء قاعدة بيانات كهذه فإن أفضل طريقة هي ترجمة البيانات الدولية في هذه المرحلة, خاصة البيانات الموجودة في التقارير السنوية التي تصدر عن وزارة الطاقة الأمريكية, ووكالة الطاقة الدولية, وأوبك. إن الوضع الحالي هو وقت مثالي للبدء في بناء قاعدة للبيانات وترجمة التقارير الدولية بسبب توافر فوائض مالية لدى دول الخليج والشركات العالمية العاملة فيها.
النهاية
Comment