أمن الطاقة…فزاعة أمريكية؟
نشر هذا المقال في جريدة الاقتصادية في عام 2003
“أمن الطاقة”… تعبير بدأه تشرشل أثناء الحرب العالمية الأولى. آمن به الأمريكيون وبدأوا يبشرون به في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي انعكس سلبياً على سمعة العرب. في الفترات الأخيرة بدأ المسؤولون الهنود بترديده بشكل ببغاوي، الأمر الذي أوقعهم في مآزق عدة. ففي الوقت الذي أعلنت فيه القيادة الهندية أن هدفها هو “إلغاء” الاعتماد على مصادر النفط الأجنبية لتحقيق أمن الطاقة، أكدت القيادة نفسها أن زيارة الملك عبد الله الأخيرة إلى الهند “تاريخية” لأنها تعزز العلاقات بين البلدين وتدعم “أمن الطاقة” في الهند. كيف يكون الاعتماد على واردات النفط من السعودية معززاً لأمن الطاقة وتهديداً له في الوقت نفسه؟.
لكن التناقضات لم تتوقف عند هذا الحد. ففي الوقت الذي أعلنت فيه الهند رغبتها في تخفيف الاعتماد على النفط المستورد لأنه يهدد أمن الطاقة الهندي، أرسلت شركتها النفطية لتوقيع عقود ملزمة، الأمر الذي يجعل اعتمادها على النفط “رسمياً” و”موثقاً” و”ملزماً” حسب كل القوانين والمواثيق الدولية. كيف يمكن لدولة قلقة بشأن أمن الطاقة أن تعرّض “رسميا” أمن الطاقة للخطر؟
وتستمر التناقضات: كيف يمكن لدولة قلقة بشأن أمن الطاقة أن ترسل شركتها النفطية للاستثمار في أقل الدول أمنا وأكثرها مخاطرة في العالم؟ لماذا يعتبر المسؤولون الهنود أن أمن الطاقة في الهند معرض للخطر بسبب زيادة اعتماد الهند على النفط المستورد، في الوقت نفسه الذي لم يقلقوا فيه على استثمارات تجاوزت 3.5 مليار دولار في أكثر الدول مخاطرة في العالم؟ ما هو الفرق بين أمن إمدادات النفط من هذه الدول وأمن هذه الاستثمارات؟ لماذا تعتبر هذه الدول آمنة للاستثمار فيها وليست آمنة لتصدر النفط إلى الهند؟
هذه التناقضات لا تقتصر على الهند، بل تمتد إلى جميع أنحاء العالم، الأمر الذي يبيّن أن المشكلة ليست في الهند أو الدول التي تتحدث عن “أمن الطاقة”، وإنما في المفهوم ذاته. فإذا كان الاعتماد على واردات النفط يهدد أمن الطاقة في كل من الولايات المتحدة والهند لأنه يهدد النمو الاقتصادي فيهما، وهما الدولتان اللتان أعلنتا في الشهور الأخيرة أن هدفهما هو وقف اعتماد بلادهما على النفط المستورد، كيف يمكن للزعماء الذين قدموا هذه الفكرة أن يفسروا استمرار النمو الاقتصادي في بلادهما رغم وصول أسعار النفط إلى مستويات قياسية؟ كيف يمكن لهؤلاء القادة أن يسوغوا وصول أسواق الأسهم إلى مستويات قياسية جديدة منذ عام 2000، رغم الارتفاع المستمر في أسعار النفط وارتفاع الواردات النفطية في كلا البلدين، ومن السعودية بالذات؟
كيف يمكن لهؤلاء القادة أن يفسروا المعجزتين الاقتصاديتين اليابان وألمانيا رغم الاعتماد الكامل لهذين البلدين على النفط المستورد؟ إذا كانت هناك علاقة بين نسبة الاعتماد على النفط المستورد والنمو الاقتصادي لكان من المفروض أن يكون وضع الأرجنتين والبرازيل أفضل من اليابان وألمانيا.
بحجة أمن الطاقة، قامت الولايات المتحدة بتقنين كميات النفط المستورد بهدف رفع أسعار النفط داخل الولايات المتحدة ودعم الإنتاج المحلي. بعد عدة سنوات اكتشف الأمريكيون أن هذه القوانين التي تستهدف تعزيز “أمن الطاقة” تعرض “أمن الطاقة ” للخطر لأنها تستنزف الموارد الوطنية. على أثر ذلك قررت الحكومة، وبحجة تعزيز “أمن الطاقة”، التخلي عن نظام حصص استيراد النفط. ومع ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات قامت الحكومة بتسعير المنتجات النفطية، مع أنها استمرت في الادعاء بأنها حكومة “رأسمالية” تؤمن بمبادئ السوق. بعد نحو عشر سنوات قررت الحكومة تحرير أسواق الطاقة لأنها اكتشفت أن التسعير الحكومي هو السبب الرئيس في الأزمة التي عرّضت “أمن الطاقة” للخطر! بحجة أمن الطاقة قررت الولايات المتحدة تحويل واردتها النفطية من الشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية وشجعت الشركات الأمريكية على الاستثمار فيها. بعد عدة سنوات انفجرت القارة كلها في وجه الولايات المتحدة وبدأت الأنظمة اليسارية تربح انتخاباً تلو الآخر.
بحجة “أمن الطاقة” ركزت الولايات المتحدة على فنزويلا. وبحجة “أمن الطاقة” حاولت الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية الابتعاد عن فنزويلا. بحجة أمن الطاقة ركزت الولايات المتحدة أنظارها على غرب إفريقيا. وما إن بدأ النفط يتدفق من المنطقة حتى اشتدت الحروب الأهلية في المنطقة وانتشرت القلاقل السياسية في منطقة دلتا النيجر في نيجيريا. الأمر أجبر الولايات المتحدة على العودة إلى نقطة الصفر: الخليج العربي!
بحجة أمن الطاقة أكد الرئيس جورج بوش عندما كان مرشحاً أن حل أزمة الطاقة يكمن في زيادة إنتاج النفط عن طريق رفع الحصار الاقتصادي عن بعض الدول النفطية والسماح لشركات النفط بالتنقيب في المناطق المحمية، خاصة في المحمية البرية في الآسكا. بعد خمس سنوات من إعلانه عن مخططه، تم رفع الحظر عن ليبيا فقط. وبدلاً من فتح المناطق المحمية للتنقيب، قام بحماية المزيد من المناطق، خاصة في الحقول المتاخمة لمياه ولاية فلوريدا.
فجأة غير الرئيس رأيه وأعلن أن أمن الطاقة لا يتم بالاعتماد على النفط! فجأة قرر أن الوقود الحيوي، خاصة الإيثانول، هو الحل الأمثل. بعد شهر من خطابه الذي أعلن فيه عن تغيير رأيه اكتشفت الإدارة أن السبب الرئيس وراء ارتفاع أسعار البنزين في الولايات المتحدة هو الإيثانول، فغير الرئيس رأيه مرة أخرى وألقى خطاباً أكد فيه أن أمن الطاقة يتطلب الاعتماد على الهيدروجين. وبعد أيام اجتمع الرئيس برؤساء شركات تصنيع السيارات في الولايات المتحدة، حيث أشار إلى أن “أمن الطاقة يتطلب زيادة كفاءة محركات السيارات، مع العلم أنه رفض هذا من قبل عدة مرات.
ومنذ أيام أعلن اتباع الرئيس من الجمهوريين في الكونجرس أن “أمن الطاقة” يتطلب زيادة الكفاءة في الاستخدام، وهو الأمر الذي ينادي به الديمقراطيون منذ ثلاثة عقود! ما هو “أمن الطاقة”؟ هل هو “فزاعة” تأخذ أشكالاً مختلفة حسب هبوب الريح وقوتها؟ في زمن الانتخابات، سواء في الولايات المتحدة أو الهند … كل شيء وارد. لذلك فإن الهجوم على السعودية ودول الخليج سيشتد مع اشتداد حرارة الصيف… وسيبرد مع برودة الشتاء، بعد الانتخابات
جريدة الاقتصادية
Comment