أمن الطاقة الأمريكي بين متغيرات السياسة والطبيعة وثوابت النفط السعودي
هذا المقال نشر في جريدة “الاقتصادية” في عام 2005 بعد اعصاري كاترينا.
أنس لن فيصل الحجي
لا أحد يعرف بالضبط ماذا يعني مفهوم “أمن الطاقة” الذي استخدمته حكومات الولايات المتحدة المتعاقبة. فهو مفهوم مطاط يتأقلم مع متطلبات الساسة الأمريكيين و أهدافهم و يتغير ما بين عشية وضحاها. وهذه الظاهرة ليست جديدة و إنما تعود جذورها إلى الحرب العالمية الأولى و ما تلاها من أحداث تتعلق باكتشاف أهمية النفط الاستراتيجية و دخول شركات النفط الأمريكية إلى منطقة الشرق الأوسط بدعم حكومي أمريكي لم يسبق له مثيل. لذلك فإن هناك شواهد كثيرة على الربط بين النفط والشركات النفطية من جهة، والسياسة الخارجية للولايات المتحدة من جهة أخرى. المشكلة أن سبر أغوار هذه العلاقة صعب للغاية لدرجة أنه لا يمكن معرفة ما إذا كان النفط يتحكم بالسياسة الخارجية لتحقيق أهداف سياسة الطاقة، أم أن السياسة الخارجية تتحكم بالنفط لتحقيق أهدافها. أما التوفيق بينهما فإن الأحداث أثبتت أنها فكرة خيالية لأن هناك تعارضاً كبيراً بين أهداف سياسات الطاقة الأمريكية وأهداف السياسات الخارجية للولايات المتحدة.
بغض النظر عمن يتحكم بمن فإن مائة عام من الأحداث تدل على أن هذا التعارض بين سياسات الطاقة والسياسة الخارجية من جهة، وتخبط السياسة الخارجية الأمريكية من جهة أخرى قد أدى إلى أزمات نفطية كانت الولايات المتحدة أولى ضحاياها. وما الأزمة الحالية التي تعاني منها الولايات المتحدة الآن إلا مثال على ذلك.
المنطق يقتضي تشجيع الاستثمار في صناعة النفط في شتى أنحاء العالم وتنويع مصادر الطاقة وتنويع مصادر واردات النفط، لذلك اعتبرت هذه الأمور من أساسيات سياسة الطاقة في الولايات المتحدة. وتوضح الأزمة الحالية أن الولايات المتحدة فشلت في الوصول إلى هذه الأهداف لأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة لها أولوية على سياسات الطاقة. فالسياسة الخارجية تطلبت تحويل واردات النفط من الشرق الأوسط إلى فنزويلا. ونجحت الولايات المتحدة في ذلك إلى أن فاز هيوغو شافيز برئاسة فنزويلا و انقلبت الأمور رأساً على عقب وأصبح شافيز هاجساً في أوقات الحلم و اليقظة. وبما أن التركيز على فنزويلا جاء على حساب واردات النفط من الشرق الأوسط فإن المنطق يقتضي بالعودة إلى الشرق الأوسط. ولكن سياسة الولايات المتحدة الخارجية تطلبت الابتعاد عن الشرق الأوسط مرة أخرى و التركيز على منطقة غرب إفريقيا. وما أن بدأت الاستثمارات الأمريكية تؤتي أكلها وتفجر النفط في المناطق الجديدة حتى كبرت آمال بعض الساسة الأمريكيين وتضخمت لدرجة أن البعض بدأت يتكلم علنا عن الاستغناء عن نفط الشرق الأوسط بالكامل، بحجة أن واردات النفط من الشرق الأوسط “غير آمنة” و”لا يمكن الاعتماد عليها”. وفجأة تفجرت القلاقل السياسية في نيجيريا كما تفجر النفط فيها: فجأة، بقوة، و بعنف، فانخفضت الإمدادات وزاد تقلب الإنتاج. ويبدوا أن البعض رأى أن تحول نيجيريا إلى الديمقراطية سيحسن من وضعها السياسي وسيخفف الاضطرابات السياسية، وبالتالي فإنه سيضمن عدم انقطاع الإمدادات، كما سيضمن زيادة مستمرة في إنتاج النفط. ولكن الديمقراطية تسمح بإشياء لا يمكن أن تحدث في عهد الدكتاتورية. فالديمقراطية سمحت لعمال النفط بالإضراب و التظاهر مطالبين بحقوقهم، وهو أمر لم يخطر على بال أحد. فزاد تقلب الإنتاج النيجيري، الأمر الذي أثر على صادرات نيجيريا إلى الولايات المتحدة. و في نفس الوقت لم يؤد التحول إلى الديمقراطية إلى حل القلاقل السياسية في الجنوب، بل زادتها اشتعالاً.
وكان ظن الحكومة الأمريكية أنها ستستطيع العودة بإنتاج النفط في العراق إلى مستويات ما قبل الاجتياح خلال فترة لا تزيد عن شهر من سقوط بغداد. والآن بعد مرور أكثر من عامين ونصف على ذلك مازال إنتاج العراق أقل مما كان عليه قبل الاجتياح بأكثر من مليون برميل يومياً، رغم الهبة التي قدمتها الحكومة الأمريكية لقطاع النفط العراقي و التي بلغت 2.3 مليار دولار، و رغم الحماية الضخمة التي تتمتع بها المنشآت النفطية.
في ضوء تقلب واردات النفط من فنزويلا و غرب إفريقيا، وعدم رغبة المسؤولين في زيادة الاعتماد على الشرق الأوسط، توغلت شركات النفط الأمريكية في خليج المكسيك بحثاً عن مصادر محلية للنفط. ونتيجة استثمارات ضخمة و تكنولوجيا لم يشهدها العالم من قبل تفجر النفط من قاع الخليج، و تفجرت معه طموحات لا تحصى. وفجأة جاء “إيفان” في العام الماضي ثم تلته أختاه “كاترينا” و”ريتا” في الشهر الماضي فعصفوا بهذه الطموحات ودمروا ما اعتقده البعض أنه لا يمكن تدميره. فجأة توقف إنتاج النفط في خليج المكسيك وارتفعت أسعار النفط والبنزين إلى مستويات قياسية.
في ظل هذه التغيرات والتقلبات سواء في السياسات الأمريكية أو إنتاج الدول التي رغبت الولايات المتحدة في الاعتماد عليها ظلت هناك بعض الثوابت التي لم تنتبه إليها الولايات المتحدة. الثوابت طيلة هذه الفترة كانت إنتاج نفط السعودي، وسياسات السعودية النفطية، واحتياطي النفط السعودي، أكبر احتياطي للنفط في العالم. هذا النفط الذي لا يرغب بعض الساسة الأمريكيين في الاعتماد عليه هو الذي أنقذ الولايات المتحدة من ورطتها و غطى عن انخفاض الإنتاج الفنزويلي والنيجيري والعراقي، و غطى عن انخفاض إنتاج النفط الأمريكي بعد إيفان. أما الثوابت الأخرى فإنها تتضمن استمرار حصول شركة أرامكو السعودية للمركز الأول ضمن شركات النفط العالمية، واستمرار حصدها لأفضل الجوائز في كافة محافل النفط العالمية.
Comment