أمريكا لم تحتل العراق لإرواء عطشها من النفط
لم تحتل الولايات المتحدة العراق للسيطرة على نفطه بهدف إرواء عطشها من النفط. النفط ليس هدف الاحتلال، ولكنه وسيلة لتحقيق الهدف. للنفط دور، ولكنه ليس الدور الذي يتصوره أصحاب نظرية المؤامرة كما ذكر في المقال السابق, أصحاب هذه النظرية لا يرون فينا إلا نفطاً، لذلك يتم اختزال كل ما يحصل حولنا بالنفط. وقد تم في المقال الماضي تفنيد بعض ما يدعيه هؤلاء حيث تبين أن ما حصل في السنوات الخمس الماضية هو عكس ما قالوه. الولايات المتحدة لم تقم بزيادة إنتاج النفط العراقي بطريقة تخفض أسعار النفط إلى مستويات تؤدي إلى تدمير منظمة “أوبك”. بل على العكس، ارتفعت الأسعار، ولم يرتفع اعتماد الولايات المتحدة على النفط العراقي بشكل ملحوظ، ولم تدخل أي شركة نفطية أمريكية كبيرة قطاع النفط العراقي حتى الآن، ولم يتم تخصيص احتياطيات النفط. أما “أوبك” فأصبحت أقوى من قبل حيث زادت قوتها وارتفع عدد أعضائها. وسيتم في مقال اليوم تفنيد العديد من الادعاءات التي يتبناها أنصار الرأي القائل إن الولايات المتحدة تهدف إلى إرواء عطشها للطاقة من النفط العراقي، حيث إن الأمر، كما ذكر سابقاً، أكبر من النفط، وأكبر من العراق، وربما أكبر من الوطن العربي. المشكلة في بعض أنصار نظرية المؤامرة أنه إذا تمت مواجهتهم ببعض الأدلة والحقائق التي تعارض وجهة نظرهم لا يناقشون الفكرة، ولكنهم يلجأون إلى الهجوم الشخصي على حامل الفكرة، وهذا أكبر دليل على سطحية “التفكير التآمري”.
واشنطن مسيطرة على النفط العراقي منذ عام 1991
من غير المعقول أن تشن واشنطن حرباً شعواء كلفتها مليارات الدولارات وآلاف القتلى للسيطرة على شيء تسيطر عليه منذ زمن بعيد. فالولايات المتحدة سيطرت على النفط العراقي منذ عام 1991 عندما أخرجت قوات صدام حسين من الكويت، وفرضت شروط استسلام قاسية على العراق، وعززت من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الأمم المتحدة. ثم تعززت سيطرة الولايات المتحدة على النفط العراقي عام 1996 بعد توقيع الحكومة العراقية برنامج النفط مقابل الغذاء مع الأمم المتحدة. فالولايات المتحدة لم تسيطرعلى أي نفط في العالم، بما في ذلك النفط الأمريكي، كما سيطرت على النفط العراقي منذ عام 1991، وبالتحديد منذ عام 1996 عندما تم التوقيع على “برنامج النفط مقابل الغذاء”. وأمريكا لم تسيطر على كميات النفط التي ينتجها العراق ويصدرها فحسب، بل سيطرت على أسعاره وتحكمت في إيراداته وكيفية إنفاقها، كما حددت الشركات التي يمكن للعراق التعامل معها. فكيف لأمريكا أن ترغب في السيطرة على نفط هو أصلاً بين أيديها؟ أضف إلى ذلك فإن الولايات المتحدة حصلت من الأمم المتحدة على معلومات تفصيلية عن جيولوجيا العراق وكل بئر نفطية فيه، وهي أمور لا يمكن أن تحصل عليها في المستقبل من حكومة عراقية حرة مستقلة. إن وجود حكومة عراقية، حتى لو كانت موالية لواشنطن، لن يمكن واشنطن من التحكم في بغداد كما تحكمت فيها في أثناء فترة “برنامج النفط مقابل الغذاء”، خاصة إذا كانت هذه الحكومة ديموقراطية ناتجة عن انتخابات حرة ونزيهة. فلا يمكن لحكومة نزيهة أن تقف صامتة ونفطها يسرق أمام أعينها، ولا يمكن لها أن تترك المعلومات المهمة المتعلقة بصناعة النفط الوطنية في أيدي الأجانب. إن سيطرة الولايات المتحدة على النفط العراقي، وتحكمها في إيرادات النفط وصادراته، وقطع الغيار اللازمة لآبار النفط، وتحديد الآبار التي تحتاج إلى الصيانة وقطع الغيار، من خلال برنامج “النفط مقابل الغذاء” تدل على أن النفط ليس الهدف الرئيس من احتلال الولايات المتحدة العراق، خاصة أن الولايات المتحدة كانت أكبر مستورد للنفط العراقي ضمن كل دول العالم من خلال برنامج النفط مقابل الغذاء، وأن وارداتها من النفط عندما كان الرئيس صدام حسين عدوها في التسعينيات أكبر منها عندما كان صدام حسين صديقها في الثمانينيات.
في هذا السياق لا بد من ذكر حقيقة مهمة وهي أن العراق لم يشارك في المقاطعة النفطية التي فرضتها الدول العربية على الولايات المتحدة وهولندا أثناء حرب رمضان، ولم يخفض الإنتاج كما فعلت الدول الأخرى لجعل المقاطعة أكثر فاعلية، بل على العكس، انسحب من الاجتماع الذي قررت فيه المقاطعة وقام بزيادة الإنتاج بمقدار 30 ألف برميل يومياً رداً على تخفيض الدول العربية الأخرى له.
الشركات الأمريكية موجودة منذ عهد صدام
وحتى قبل الغزو العراقي للكويت، كانت الشركات الأمريكية في طريقها للسيطرة على جزء كبير من النفط العراقي عندما وقعت عقوداً ضخمة مع حكومة الرئيس صدام حسين في عام 1987. هذه العقود كانت مغرية جداً للشركات الأمريكية لدرجة أن عوائدها كانت ستحقق ثلاثة إلى أربعة أضعاف ما تحققه هذه الشركات في مناطق أخرى من العالم. إلا أن الغزو العراقي للكويت أوقف عمل هذه الشركات، والتي حصلت على تعويضات ضخمة فيما بعد. وكان الرئيس العراقي صدام حسين قد أعلن قبل أسابيع من الاجتياح الأمريكي للعراق، ظناً منه أن الأمريكيين يريدون النفط، أن عقود عام 1987 ما زالت سارية المفعول وأنه يمكن للشركات الأمريكية العودة إلى العراق وفقاً لهذه العقود. لقد كان صدام مستعداً لتقديم أي شيء مقابل بقائه في السلطة، بما في ذلك النفط العراقي، ولكن حتى ذلك لم يوافق عليه البيت الأبيض. إن التحدي الذي يواجهه أنصار الفكر التآمري هو إثبات أن شركات النفط العالمية، بما في ذلك الأمريكية المنشأ، شجعت الإدارة الأمريكية على اجتياح العراق. أين هي الأدلة على ذلك؟
وهنا لا بد من ذكر حقائق مهمة وهي أن عدداً من الشركات الأمريكية أسهمت في بناء جزء من البنية التحتية للعراق أثناء حكم حزب البعث، وكانت شركة هالبيرتون من أهم تلك الشركات. إن حصول هذه الشركة على عقود بناء ميناء البصرة وبعض المنشآت النفطية لم يكن بمحض الصدفة، فهي الشركة نفسها التي بنتها في عهد صدام، وهي الوحيدة التي لديها كل المخططات.. و الخبرات!
تقرير تشيني
يركز أصحاب فكرة المؤامرة النفطية عادة على ما يسمى “تقرير تشيني”, الذي يمثل استراتيجية إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش في الطاقة لإثبات وجهة نظرهم، ويا ليتهم قرأوا التقرير، الذي صدرت النسخة الأولى منه في ربيع عام 2001، قبل أن يستشهدوا به، لأن التقرير ينقض أفكارهم كلها. إن التقرير المذكور نفسه يقتضي تخفيف الاعتماد على نفط الشرق الأوسط وإيجاد مصادر بديلة له، وهي السياسة الحالية. فإذا كان هدف الاحتلال هو إرواء عطش أمريكا من النفط العراقي فإن هذا يتناقض مع “تقرير تشيني” ومع مبادئ استراتيجية الطاقة الأمريكية! وهذا ما سيتم طرحه أدناه.
أهداف سياسة الطاقة الأمريكية والنفط العراقي
تهدف سياسة الطاقة الأمريكية، وذلك وفقا إلى استراتيجية الرئيس جورج بوش وتقرير تشيني وسياسات الطاقة السابقة إلى تحقيق عدة أمور أهمها:
1- تنويع مصادر الطاقة:
هذا يعني تعدد مصادر الطاقة المختلفة وتخفيض دور المصادر التي تشكل نسبة كبيرة من الاستهلاك وزيادة استخدام المصادر الأخرى. هذه الفكرة، والتي تعد العمود الفقري لأي سياسة طاقة أمريكية، تنقض نظرية المؤامرة التي تقول بأن هدف الاحتلال هو السيطرة على النفط العراقي وتخفيض أسعار النفط وتدمير أوبك بهدف إرواء عطش الولايات المتحدة من النفط. فالسيطرة على النفط العراقي ستؤدي إلى زيادة اعتماد الولايات المتحدة على النفط مقابل مصادر الطاقة الأخرى. إن العداء المستفحل في الغرب من كل الأحزاب والأطياف ضد النفط دليل آخر على أن سياسة الطاقة الأمريكية لا تتطلب السيطرة على النفط العراقي.
2- تنويع مصادر واردات النفط:
اتبعت الولايات المتحدة هذه السياسة منذ زمن بعيد حيث استطاعت زيادة عدد الدول التي تستورد منها حتى لا تكون ضحية للعوامل السياسية والطبيعية لمنطقة ما. إن أمن الطاقة يتطلب هذا التنويع. السيطرة على النفط العراقي وزيادة واردات الولايات المتحدة منه يتعارض مع هذه السياسة وسيجعل الولايات المتحدة تحت رحمة العوامل السياسية في العراق، وهو أمر لا يمكن لأي إدارة أمريكية أن تقبله. إضافة إلى ذلك فإن تخفيض أسعار النفط، كما يدعي أنصار نظرية المؤامرة بأنه هدف الاحتلال، سيؤدي إلى تركيز واردات الولايات المتحدة بدلا من تنويعها. فهبوط أسعار النفط سيؤدي إلى انخفاض الإنتاج في المناطق عالية التكلفة، وسيقلل من عدد الدول المصدرة. وهنا لابد من التذكير بأن نفط بحر الشمال ونفط ألاسكا ما كان له أن يرى النور لولا ارتفاع الأسعار على إثر رفع أوبك الأسعار ثم المقاطعة النفطية العربية التي تلت ذلك الرفع. في المقابل، خسرت الولايات المتحدة نحو ثلاثة ملايين برميل من إنتاجها اليومي بسبب انخفاض الأسعار في منتصف الثمانينيات وفي عامي 1998 و1999.
3- الاستيراد من مناطق مستقرة و آمنة:
مع مرور الزمن استطاعت الولايات المتحدة تنويع مصادر وارداتها النفطية من جهة، وتركيز جزء مهم منها في مناطق آمنة حيث إن من أهم المصدرين للولايات المتحدة الآن كندا والمكسيك. ولفترة طويلة من الزمن كانت فنزويلا تعد من المصادر الآمنة للنفط. إن زيادة اعتماد الولايات المتحدة على النفط العراقي يتعارض مع هذا الهدف. فالشرق الأوسط ككل يصنف منطقة غير آمنة، وهذا التصنيف هو أحد الأسباب الرئيسة لظهور مفهوم أمن الطاقة في السنوات الأخيرة.
4- استقرار أسعار النفط و تخفيض تذبذبها:
استقرار الأسعار مهم للمستهلكين و المنتجين لأسباب كثيرة أهمها أن الاستقرار يساعد الحكومات على تطبيق سياساتها المالية و النقدية بنجاح، كما يمكن القطاع الخاص من التخطيط لفترات أطول، وبتكاليف أقل. بعبارة أخرى، هناك فوائد اقتصادية وسياسية ضخمة من استقرار الأسعار، حتى لو في مستويات عالية. ما يراه أنصار نظرية المؤامرة من أن احتلال أمريكا للعراق يهدف لإرواء عطشها من نفطه، وتخفيض أسعار النفط، وتفكيك أوبك يتعارض مع هدف استقرار أسعار النفط. فالحرب والتفجيرات المستمرة للمنشآت النفطية تسهم في زيادة ذبذبة الأسعار. وانخفاض الأسعار يؤدي إلى انخفاض الطاقة الإنتاجية في المناطق المرتفعة التكاليف ويمنع الدول المنتجة من الاستمرار في الاستثمار في احتياطيات جديدة. هذه النتائج تؤدي إلى ذبذبة الأسعار من جهة، وارتفاعها في المراحل المقبلة من جهة أخرى. أما تفكيك أوبك فإنه سيؤدي إلى أن كل دولة ستتصرف على حدة و في أوقات مختلفة، الأمر الذي سيؤدي أيضاً إلى زيادة ذبذبة الأسعار.
أهداف السياسة الخارجية و النفط العراقي
ما ذكر في المقالين الماضيين والطرح المذكور أعلاه يبين أن هناك تعارضاُ صارخاً بين أهداف سياسية الطاقة الأمريكية وفكرة اعتماد الولايات المتحدة على النفط العراقي. إذا ما دور النفط؟ ولماذا قام الجيش الأمريكي بالسيطرة على حقول النفط العراقية في بداية الاحتلال؟ ولماذا تمت حماية وزارة النفط بينما تم تدمير الوزارات الأخرى أو السماح بنهبها؟ الجواب بكل بساطة هو أن السياسة الخارجية الأمريكية تتطلب السيطرة على النفط العراقي. فمن وجهة نظر السياسة الخارجية، ما مصدر قوة العدو؟ المصدر هو المال الذي ينفقه الرئيس العراقي صدام حسين على الجيش، ومصدر هذا المال هو النفط. إذا السيطرة على مصدر قوة الخصم هو هدف استراتيجي لإضعاف هذا الخصم للتخلص منه. ولكن هناك هدف استراتيجي آخر يتمثل في استخدام إيرادات النفط لتمويل حكومة عراقية جديدة موالية للولايات المتحدة. إذا سيطرة الجيش الأمريكي على حقول النفط يسوغها إضعاف الخصم، وعبارات المسؤولين الأمريكيين المتعلقة بأموال النفط يسوغها تمويل الحرب وتمويل الحكومة الجديدة. هذا كل ما في الأمر. حاجة الولايات المتحدة للنفط العراقي تتمثل في الأموال التي يقدمها لدعم الحكومة الجديدة.
طبعاً هناك من يرى أيضاً أن هناك أهداف استراتيجية أبعد من العراق لأن سيطرة الولايات المتحدة على النفط العراقي تعني سيطرتها بشكل مباشر على اقتصادات الدول المنافسة مثل الصين واليابان. ما ينقض هذه الفكرة هو ما ذكر في المقال الماضي من أن الولايات المتحدة كانت مسيطرة على النفط العراقي بشكل كبير خلال عهد صدام حسين وتأثير هذه السيطرة في الاقتصادين الصيني والياباني لم يتغير. ولكن قد تكون هناك أبعاد استراتيجية لا علاقة لها بالنفط ولكن بالموقع الاستراتيجي للعراق.
خلاصة القول، النفط العراقي ليس هدف الاحتلال، ولكنه وسيلة لتحقيق أهداف الاحتلال المتمثلة في إزالة نظام وتمويل نظام جديد مكانه. ولاشك أن هناك أهدافا أخرى قد ينكشف بعضها مع مرور الزمن.
Comment