أسواق النفط في حاجة إلى إدارة؟
أنس بن فيصل الحجي
نشر هذا المقال بتاريخ 19 مارس 2019 في موقع الإندبندنت العربية
السؤال الذي يطرح نفسه في ظل مشروع محاكمة أوبك والدول الأعضاء فيها في مجلس الشيوخ والكونغرس الأمريكيين هو: هل أسواق النفط في حاجة إلى إدارة؟ بعبارة أخرى، هل الأسواق في حاجة إلى منتج متأرجح سواء كان ذلك “أوبك” أم السعودية؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال لابد أن أؤكد أنني مؤيد لحرية الأسواق، وقصر دور الحكومة في الأسواق على ضمان حرية هذه الأسواق. على الرغم من ذلك فإنني على قناعة تامة بأن أسواق النفط تحتاج إلى من يديرها لإلغاء التقلبات الشديدة والكبيرة من جهة، والتخفيف من حدة التذبذب من جهة أخرى. فصناعة النفط، مثلها مثل كل الصناعات الاستخراجية، تختلف عن غيرها بأنها كثيفة رأس المال، وأغلب التكاليف تدفع سلفاً، سواء اكتُشِفَ النفط أو لم يُكتَشف، بينما التكاليف التشغيلية بسيطة. فإذا انخفضت أسعار النفط، فإن مايهم المنتج في هذه الحالة هو تغطية تكاليفه التشغيلية البسيطة، الأمر الذي ينتج منه منافسة قاتلة ومُهدرة للموارد.
إن زيادة حدة الذبذبات في أسعار النفط تضر بالمنتحين والمستهلكين، كما تؤثر سلباً في نمو الاقتصاد العالمي، والذي هو أساس نمو الطلب على النفط، كما أنه أساس نمو الوظائف والتخفيف من البطالة في الدول المستهلكة. كما أن التقلبات الكبيرة تؤدي إلى هدر الموارد وارتفاع التكاليف وانخفاض كفاءة إنتاج النفط واستهلاكه.
ونظراً للتكلفة الباهظة للتقلبات الكبيرة في أسعار النفط، فإنه من الطبيعي أن يرغب المنتجون والمستهلكون في منعها أو التخفيف من حدتها وتحقيق نوع من الاستقرار في أسواق النفط. وتوضح نظرة سريعة إلى صناعة النفط منذ نشأتها تجارياً في العام 1860 وحتى الآن، أن أسعار النفط مرت بفترات استقرار وبفترات ذبذبات عنيفة. ويشير التاريخ إلى أن كل فترات الاستقرار حصلت بسبب وجود مدير لأسواق النفط!
بعد اكتشاف النفط في بنسلفانيا في العام 1859 وتسويق الكيروسين كمنتج للإضاءة بدلاً من زيت الحيتان، تذبذبت أسعار النفط في شكل كبير حتى سيطر جون روكفلر عبر شركته ستنادارد أويل على أغلب الصناعة في الولايات المتحدة بهدف تحقيق الاستقرار في أسواق النفط ومنع هدر الموارد وزيادة الكفاءة وتحفيض التكاليف.
إلا أن سيطرته على الصناعة في شكل احتكاريّ لم يرقْ لأصحاب القرار فتمت محاكمة الشركة ونتج من ذلك قرار تقسيمها إلى أكثر من 30 شركة، فعادت التقلبات الكبيرة للأسواق، ثم انخفضت الأسعار في شكل كبير بسبب المنافسة الشديدة بين شركات روكفلر من جهة، والاكتشافات النفطية الجديدة من جهة أخرى، فزاد الهدر وانخفضت الكفاءة وارتفعت التكاليف، الأمر الذي نتج منه قيام حكومات الولايات المنتجة مثل تكساس وأوكلاهوما ولويزيانا بتقنين الإنتاج من طريق استخدام الحرس الوطني لإجبار المنتجين على إغلاق آبارهم أو تخفيض الإنتاج. ولعل أشهر هيئة قامت بذلك هي مصلحة سكة حديد تكساس والتي أعطيت الصلاحية لإدارة أسواق النفط في الولاية، على الرغم من أن كل الصناعة مملوكة من القطاع الخاص. باختصار، في غياب روكفلر، لم تجد الحكومات بداً من قيامها بما كان يقوم به روكفلر.
كما نتج من انخفاض الأسعار تعاضد شركات النفط العالمية خارج الولايات المتحدة والتنسيق بينها، والتي عرفت في ما بعد بـ “الأخوات السبع”، الأمر الذي جعلها تسيطر على أغلب صناعة النفط العالمية، فانخفض الهدر، وانخفضت التكاليف، واستقرت الأسعار. باختصار، تمت إدارة السوق داخل الولايات المتحدة من قبل حكومات الولايات (وبمباركة من الحكومة الفيدرالية)، وتمت إدارتها خارجياً من قبل الشركات العالمية.
مع موجة التأميم في بعض الدول المنتجة، وضعف الشركات، وبداية ظهور “أوبك” في بداية السبعينيات، بدأت معالم عدم الاستقرار تظهر في الأسواق، بخاصة الأميركية منها، فلجأت الحكومة الأميركية في بداية السبعينيات إلى مالم يكن يخطر على بال: تبني نظام التسعير الحكومي الذي كان شائعاً في الاتحاد السوفييتي وقتها، وتم تسعير النفط الخام والغاز والمنتجات النفطية بهدف تحقيق الاستقرار في أسواق النفط.
الغريب في الأمر هو انهيار أسعار النفط بمجرد قيام الولايات المتحدة بتحرير أسواق النفط والغاز ووقف عمليات التسعير الحكومي في بداية الثمانينيات حيث أن هذا التصرف ألقى بمسؤولية إدارة السوق على “أوبك” في شكل مفاجئ، التي لم تكن مستعدة لذلك على الإطلاق. فعادت الذبذبة الشديدة إلى الأسواق.
بدأت “أوبك” بتطبيق نظام الحصص الإنتاجية في بدايات الثمانينيات في محاولة لتحقيق الاستقرار في السوق، بعد أكثر من 20 عاماً من تأسيسها، إلا أن حداثة الأمر والخلاف الدائم بين هذه الدول لم يمكّناها من إدارة السوق، واستمرت الأسعار بالانخفاض. قامت “أوبك” بتجريب نظام الحصص سنوات عدة حتى تمكنت من إتقانه، إلا أن الملاحظ أن عدم التزام العديد من الأعضاء جعل السعودية هي المنتج المتأرجح الذي خفّف من حدة التقلبات في أسواق النفط، بالتعاون أحياناً مع دول أخرى في المنظمة. ثم تطور الأمر في ما بعد ليشمل التعاون مع دول من خارج المنظمة أبرزها روسيا.
بالنظر إلى الفترة منذ بداية التسعينيات حتى الآن يمكن القول إن السعودية نجحت في منع التقلبات الشديدة في أسواق النفط، إلا أن التذبذب في الأسواق أكبر بكثير من الفترات التي سيطرت فيها الشركات أو مصلحة سكة حديد تكساس على السوق. وهذا أمر منطقيّ بسبب وجود كمية كبيرة من الإنتاج العالمي خارج سيطرة “أوبك”، بينما سيطرت مصلحة سكة حديد تكساس على السوق المحلي بالكامل، وسيطرت الأخوات السبع على أغلب الإنتاج العالمي.
خلاصة القول، إن وجود منتج متأرجح مثل السعودية وبعض حلفائها تحت مظلة “أوبك+” مهم لإدارة أسواق النفط لمنع التقلبات الشديدة في الأسواق، إلا أنها لاتستطيع تحقيق الاستقرار الذي حققته الهيئات والشركات التي أدارت السوق من قبل بسبب السيطرة الجزئية لدول “أوبك” في أسواق النفط. وهذه النقطة الأخيرة قد تفيد دول “أوبك” في دفاعها عن نفسها في المحاكم الأميركية إذا ما أصبح مشروع قانون محاكمة “أوبك” ودولها قانوناً!
Comment