مستقبل العراق بين “الديمقراطية” و “البتروقراطية”

يستمد هذا المقال أهميته من أنه نشر بالعربية والانكليزية مباشرة بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق في عام 2003.
أنس بن فيصل الحجي
الهدف: تحقيق ديمقراطية مستدامة
تفيد التصريحات الأمريكية أن إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش مع مفكريها من المحافظين الجدد يرغبون في إعادة بناء العراق و إنشاء عراق “ديمقراطي” حر. و لتحقيق هذه الرغبة فإن الحكومة الأمريكية بذلت جهوداً ضخمة لإحياء قطاع النفط العراقي بحجة أن عائدات النفط ضرورية لإعادة إعمار العراق و تحويله إلى مثال للديمقراطية في الشرق الأوسط. و بدأت هذه الجهود باحتلال القوات الأمريكية لحقول النفط في بداية اجتياح العراق, ثم منحت الإدارة الأمريكية قطاع النفط العراقي 2.3 مليار دولار, و خصصت آلاف الجنود لحماية المنشآت النفطية, خاصة في الجنوب, كما تعاقدت مع شركات أمنية لحماية المنشآت النفطية و الأنابيب في الشمال.
المشكلة: التعارض بين الديمقراطية و “البتروقراطية”
هل زيادة إنتاج النفط العراقي هي أفضل وسيلة لمساعدة الشعب العراقي و ضمان مستقبل حر لهذا الشعب الذي عانى خلال 70 سنة الماضية؟ هل تستطيع إدارة الرئيس بوش تحقيق “ديمقراطية مستدامة” في العراق عن طريق زيادة اعتماد العراق على صادرات النفط؟ أم أنها ستخسر فرصة تاريخية, قد لا تتكرر, لكي تحول العراق من بلد يعتمد على مصدر واحد للدخل إلى بلد متعدد المصادر؟
المشكلة أن هناك تعارضاً بين فكرة بناء عراق “ديمقراطي”, و فكرة تمويل هذه “الديمقراطية” من إيرادات النفط و زيادة الاعتماد عليه. فتاريخ الدول النفطية يشير إلى أن أمل العراقيين في تحقيق الديمقراطية يتطلب الحد من الاعتماد على قطاع النفط, و يتطلب جعله قطاعاً رديفاً للاقتصاد العراقي بدلاً من كونه القطاع الرائد و المسيطر. إن انتشار “ديمقراطية مستدامة” في العراق يتطلب وجود “تنمية مستدامة”, و كلاهما يتطلب تنويع مصادر الدخل بدلاً من الاعتماد على النفط كمصدر أساس للإيرادات. إن زيادة الاعتماد على قطاع النفط تؤدي إلى نشر “البتروقراطية” التي سادت في عهد الرئيس المخلوع صادم حسين بدلاً من “الديمقراطية” التي تتغنى بها إدارة الرئيس جورج يوش ويحلم بها الشعب العراقي.
مضار الاعتماد على النفط كمصدر أساس للدخل
يرى المحافظون الجدد أن عوائد النفط ضرورية لبناء عراق “ديمقراطي”. فالعراقيون بحاجة إلى الغذاء و الماء النظيف و الخدمات الأساسية و الكهرباء و الخدمات المدنية, بالإضافة إلى فرص عمل شريفة تسهم في بناء هذا الوطن العريق. و يبدو أن المحافظين الجدد تناسوا أن الاعتماد على النفط كمصدر رئيس للدخل قد دمر العديد من البلاد النفطية, خاصة نيجيريا و فنزويلا و العراق. إن الاعتماد على النفط كمصدر أساس للدخل لا ينتج عنه تنمية اقتصادية, و ما حصل في العراق خلال 70 سنة الماضية أفضل مثال على ذلك. فزيادة اعتماد العراق على النفط حولته من بلد مصدر للمواد الغذائية إلى مستورد لها. هل نسي المحافظون الجديد “لعنة النفط” أو “المرض الهولندي” الذي أصاب اقتصادات الدول المصدرة للنفط؟ هل يريدون أن يصاب العراق بهذا المرض مرة أخرى؟ إن أغلب الدول المصدرة للنفط تعاني بشكل أو بآخر من الفساد والديكتاتورية و انتهاك حقوق الإنسان و الحروب و انخفاض إنتاجية العمال و توقف عجلة التنمية الاقتصادية وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي مقارنة بدول مماثلة غير نفطية. لقد كان النفط هو سر نجاح صدام حسين و سيطرته على العراق و نفوذه في المنطقة في الثمانينات و التسعينات. رغم كل هذه الدروس التاريخية, ألم يحن الوقت لتنويع مصادر الدخل في العراق؟
ماذا جلب النفط للعراق؟ ديكتاتورية و انقلابات و حروب ونكبات وقتل و تشريد و تهجير وانتهاك لحقوق الإنسان. سبعين سنة من إيرادات النفط نتج عنها القليل من التنمية و فعلت القليل لأهل العراق. و نتج عنها ارتفاع مستوى الدين العام و التضخم و العجز المستمر في الموازنة و انخفاض معدلات النمو الاقتصادي. إيرادات النفط لم تجلب تغيرات كبيرة في الهياكل الاقتصادية و الاجتماعية في العراق. و لم ينتج عن زيادة الاستثمار في البتروكيماويات و المصافي و غيرها من الصناعات النفطية الكثيفة رأس المال أنشطة كافية لتخفيف اعتماد العراق على النفط كمصدر أساس للدخل, كما أنها أسهمت في خنق القطاعات غير النفطية و انخفاض إنتاجيتها. فقد كانت إنتاجية قطاعي الزراعة والصناعة منخفضة جداً حتى في فترات النمو العالية في الستينات والسبعينات مقارنة بدول مماثلة, رغم زيادة الاستثمار في هذه القطاعات. و نتج عن التركيز على قطاع النفط انخفاض مستمر في مساحة الأراضي الزراعية في الوقت الذي أنتجت فيه المصانع بأقل من طاقتها الإنتاجية بكثير. إن كل ما ذكر سابقاً لا ينطبق على العراق فحسب, و لكنه ينطبق على أغلب الدول النفطية من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا إلى آسيا الوسطى مرورا بالشرق الأوسط. إنها “لعنة النفط”!
الحل هو تنويع مصادر الدخل
إن الحد من تطوير الحقول النفطية العراقية و تنويع مصادر الدخل في العراق و تطوير القطاعات الزراعية و الصناعية و الخدمية لن يعود بالنفع على العراقيين فقط, و إنما سيعود بالنفع على إدارة الرئيس بوش أيضاً لأن هذا التنويع سيقنع العالم أن الإدارة لم يكن هدفها من احتلال العراق النفط العراقي. إن استمرار التركيز على زيادة إنتاج النفط العراقي وجعله أحد معايير نجاح إدارة بوش في العراق لا يساعد إدارة بوش على إقناع العالم بأن هدفها هو تحقيق الديمقراطية في العراق, و إنما يرسخ القناعة السائدة بأن الإدارة مهتمة بالنفط العراقي فقط, و أن الإدارة تعتقد أن النفط هو الدواء الناجع لكل مشاكل العراق. و قد يكون هذا الاقتناع هو أحد الأسباب الرئيسة في التفجير المستمر لأنابيب النفط والمنشآت النفطية لاقتناع من يقوم بذلك أنهم يؤذون الولايات المتحدة و أن من يسيطر على تدفق النفط العراقي يحدد مستقبل العراق.
إن تنويع مصادر الدخل في العراق سيسهم في تحقيق الاستقرار السياسي و الاقتصادي خلال فترة أقل من الفترات التي تطلبها الخيارات الأخرى, كما أنه سيخلق فرصاً مختلفة لكافة فئات المجتمع العراقي و لمختلف الشركات الأمريكية بدلاً من قصر الفوائد على شركات الإعمار و النفط. باختصار, إن تنويع مصادر الدخل في العراق سيفيد كلاً من العراقيين بمختلف أطيافهم, و الشركات الأمريكية بمختلف تخصصاتها, و إدارة الرئيس بوش
تنويع مصادر الدخل سيحل مشكلة البطالة
إن صناعتي النفط و البتروكيماويات من الصناعات الكثيفة رأس المال, لذلك فإنهما توفران فرص وظيفية محدودة ولا تسهمان في حل مشكلة البطالة. و حتى لو قام العراق بمضاعفة طاقته الإنتاجية النفطية فإن ذلك لن يخلق فرص وظيفية كثيرة. لقد قامت حكومة الرئيس المخلوع صدام حسين بإخفاء البطالة عن طريق توظيف عشرات الألوف من الشباب في الجيش. و لكن الجيش العراقي في “العراق الديمقراطي” سيكون أصغر بكثير مما كان عليه, و لن يستطيع إخفاء البطالة كما أخفتها حكومة الرئيس السابق. إن تنويع مصادر الدخل هو الفرصة الوحيدة لإيجاد فرص عمل لعشرات الألوف من الشبان و الفتيات. إن مشكلة البطالة في العراق ستكون خطيرة جداً لدرجة أنها ستهدد أمن البلاد باستمرار, كما أنها ستُفشل خطط الإدارة الأمريكية في تحقيق السلام و الديمقراطية في العراق. و تشير البيانات إلى أن نصف السكان تحت سن 18 سنة. و هذا يعني أن ملايين الشباب يحتاجون إلى وظائف خلال الأعوام القادمة. إن البطالة ستكون مصدراَ رئيساً للقلاقل السياسية و العمليات الإرهابية و الجرائم المختلفة و ستصبح الوحش الذي قد يفترس الديمقراطية الوليدة. إن تنويع مصادر الدخل كفيل بقتل هذا الوحش و حماية الديمقراطية.
العراق قادر على تنويع مصادر الدخل
لدى العراق كل شروط النجاح, ولكنه يحتاج إلى الوصفة الصحيحة و الطباخ الماهر. فمن الممكن تحويل العراق إلى دولة رائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات في الشرق الأوسط, أو إلى مركز صناعي, أو إلى مركز مالي, أو إلى مصدّر ضخم للمواد الزراعية. فلدى العراق ثروات معدنية و مائية و أراض خصبة. و لاشك أن أفضل ثروة يملكها العراق هي ثروته البشرية. و لدى العراق جامعات مرموقة و عمالة مدربة بخلفيات تعليمية وخبرات مختلفة. و علينا أن لا ننسى أن هناك عشرات الألوف من العراقيين الذين تعلموا في الغرب و اكتسبوا خبرات جيدة, و أن أغلبهم يرغب في العودة لخدمة وطنهم الأم. إن موقع العراق الجغرافي و تاريخه و ثقافاته المتنوعة و التنوع العرقي و الديني سيلعب دوراً كبيراً في تحقيق تنويع مصادر الدخل. و لكن هذا التنوع يجب أن يبدأه أحد ما, لأنه لن يحدث بشكل تلقائي.
و لكن من سيقوم بتنويع مصادر الدخل؟
إن الوضع في العراق يوضح أن إدارة الرئيس بوش هي الوحيدة التي يمكنها أن تحقق التنويع في اقتصاد العراق في الوقت الحالي. فالمستثمرون الأجانب و البنك الدولي و صندوق النقد الدولي ليس لديهم أي مصلحة في تنويع مصادر دخل العراق. بالإضافة إلى ذلك فإن أي حكومة عراقية ليس لها مصلحة مباشرة في تنويع الدخل لأنها ستكون تحت ضغط كبير لزيادة عائدات النفط لمقابلة احتياجات البلد و الفئات التي انتخبتها, الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة اعتماد العراق على النفط.
إن المستثمرين الأجانب مهتمين بصناعة النفط العراقية وليس لديهم أي رغبة في تنويع مصادر الدخل العراقية. و ستحاول البنوك الأجنبية و غيرها من بيوت المال العالمية تمويل المشاريع في العراق طالما أنه يمكن ضمانها بصادرات النفط, الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة اعتماد العراق على النفط. و سيركز البنك الدولي وصندوق النقد الدولي جهودهما على إعادة بناء العراق و تمكين العراق من دفع الفوائد على ديونه الضخمة, و هذا سيؤدي أيضاً إلى زيادة اعتماد العراق على إيرادات النفط. و لا يتوقع أن تقوم أي حكومة عراقية بتنويع مصادر الدخل. إن أي حكومة ديموقراطية جديدة ستقع في فخ زيادة الاعتماد على النفط. و سيكون السياسيون العراقيون تحت ضغط شديد للوفاء بوعود ما قبل الانتخابات. و هذه الوعود تتطلب استخدام المزيد من عائدات النفط, والتي ستؤدي إلى زيادة اعتماد العراق على النفط.
و لكن إدارة الرئيس بوش تستطيع أن تبدأ التنويع الآن لكي تفسح الطريق أمام ديمقراطية مستدامة. إن الإدارة مدينة للشعب العراقي و عليها أن تفي بوعودها بإنشاء عراق ديمقراطي يتمتع بالرفاهية والتقدم. إن فشل إدارة بوش في تحقيق وعودها سيثبت أن الولايات المتحدة لم “تحرر” العراق. و إذا لم تف الإدارة بوعودها فإن التاريخ قد يحكم على “عملية تحرير العراق” بأنها واحدة من أسوأ الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة في تاريخها.
إن إدارة بوش لن تحقق أهدافها ولن تف بوعودها للشعب العراقي إلا إذا قامت بتنويع مصادر الدخل في العراق. إنه ليس لدى الولايات المتحدة, إذا كانت فعلاً تهدف إلى تحقيق الديمقراطية في العراق, إلا أن تحد من إنتاج النفط العراقي و تشجع مصادر الدخل البديلة قبل أن يتسلل صدام جديد إلى السلطة. إن تنويع مصادر الدخل هو نوع من “الضربة الاستباقية” التي ستمنع ديكتاتوريو المستقبل من التسلل إلى السلطة.
الخلاصة
إن العراق الآن في وضع مثالي للتركيز على تنويع مصادر الدخل و تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية تسهم في تخفيف البطالة و ترفع من دخل العراقيين و تحقق لهم الديمقراطية المنشودة. إن التركيز على صناعة النفط و إهمال بقية القطاعات يعني أنه على الديمقراطية الانتظار لأن الاعتماد على النفط لن يؤدي بشكل تلقائي إلى تنويع الاقتصاد. إن الولايات المتحدة أمام فرصة تاريخية لزرع بذور تنويع مصادر الدخل و معها بذور الحكم الذاتي و الرفاه الدائم و الديمقراطية المستدامة في العراق, فهل ستقوم بهدر هذه الفرصة التاريخية لتفسح المجال أمام “بتروقراطية” جديدة في العراق؟ و إن غداً لناظره قريب.
Comment