النفط في السودان: نعمة أو نقمة؟

- نشر هذا المقال في جريدة الوطن السعودية في العدد 269 يوم الاثنين 25 يونيو 2001
- هناك 17 مشروعاً لقوانين تتعلق بالسودان في مجلس الشيوخ والكونغرس, بينما هناك 7 فقط لشمال كوريا الشيوعية!
- الصين هي المستفيد الأكبر من انسحاب شركات النفط من السودان
(2 من 5)
أنس فيصل الحجي
النفط السوداني والسياسة
قام النفط السوداني بدور كبير في السياسة العالمية حيث غير علاقات السودان مع الدول الغربية تغييراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة, خاصة دول الاتحاد الأوروبي. كما أثر على العلاقة بين الحكومة السودانية والانفصاليين في الجنوب حيث أجبرهم على الجلوس على مائدة المفاوضات, أكثر من مرة.
وقد كان التأثير السياسي للنفط السوداني واضحاً عندما استثنى الرئيس الأمريكي السابق, بيل كلينتون, شركة النفط الأمريكية, أوكسيدينتال, من المقاطعة الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على السودان في عام 1997. وكان الهدف من الاستثناء تمكين الشركة من توقيع عقد مع السودان قدره 950 مليون دولار. وقد أثار هذا الاستثناء غضب اليمين المسيحي الأمريكي المشهور بدعمه للانفصاليين في جنوب السودان, واتهموا حكومة كلينتون وحزبه الديموقراطي باستلام مبالغ مالية ضخمة من شركة أوكسيدينتال للسماح لها بالاستثمار في السودان. ولكن السودان رفض التفاوض مع شركة أوكسيدينتال وفضّل التعامل مع شركات من جنسيات أخرى.
الجدير بالذكر أن المقاطعة التي فرضها الرئيس السابق بيل كلينتون في عام 1997 أدت إلى تجميد كل الأموال السودانية في أمريكا, ومنع الشركات الأمريكية من التجارة والاستثمار في السودان. كما أدت بشكل غير مباشر إلى وقف الإعانات الدولية الرسمية وخاصة من الأمم المتحدة. وكانت حكومة كلينتون قبل ذلك قد أضافت اسم السودان إلى لائحة الدول الداعمة للإرهاب منذ عام 1993.
وبعد استكمال خط الأنابيب وقيام السودان بتصدير النفط, طرأ نوع من التحسن على العلاقات بين السودان والولايات المتحدة التي زاد اهتمامها بالسودان. ونتج عن ذلك قيام الكونغرس الأمريكي بوضع صيغة للسلام في المنطقة, في الوقت الذي لوّح فيه للسودان بالشروط التي سيؤدي تطبيقها إلى رفع الحظر الاقتصادي من جهة, وتقديم مساعدات مالية من جهة أخرى. و أدى ذلك إلى قيام وفد أمريكي كبير مكون من 200 شخص بزيارة السودان في شهر يوليو (تموز) من العام الماضي بهدف التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب. وتضمن الوفد مسئولين في المخابرات المركزية الأمريكية و مصلحة التحقيق الفدرالية ووزارة الخارجية.
و رغم أن إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون تجاهلت موضوع السودان نوعاً ما, إلا أن الجمهوريين, بدعم من اليمين المسيحي, أصروا على إبراز موضوع السودان كلما أتاحت لهم الفرصة ذلك. وقد سنحت لهم الفرصة الأولى عندما أمر كلينتون بضرب مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم بعد تفجير السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا. و رغم اعتراف حكومة كلينتون بشكل ضمني بخطئها الفادح في ضرب المصنع بعد أن تبين لها عدم صحة المعلومات الاستخباراتية التي حصلت عليها والتي أشارت إلى قيام المصنع بإنتاج أسلحة كيماوية, مازال اليمين المسيحي يشيد بتصرف كلينتون “القوي” ويصر على أن المصنع كان ينتج “أسلحة كيماوية”.
ووجد اليمين المسيحي فرصة ذهبية في فوز مرشحهم جورج بوش بالرئاسة, فدفعوا بموضع السودان إلى الواجهة وجعلوه ضمن أولويات بوش في السياسة الخارجية, رغم تجاهل إدارة بوش للقضية الفلسطينية! ويدل على ذلك وجود 17 مشروعاً لقوانين تتعلق بالسودان في مجلس الشيوخ والكونغرس, في الوقت الذي يوجد فيه 7 مشاريع فقط تتعلق بكوريا الشمالية “الشيوعية”, والتي تعتبر من أكثر الدول تهديداً للاستقرار العالمي!
وتوج اليمين المسيحي جهوده بقيام الرئيس الأمريكي جورج بوش بشن حملة عنيفة على السودان في خطاب ألقاه عند تعيين آندرو ناتسيوس في الشهر الماضي منسقاً خاصاً للشؤون الإنسانية في السودان. و أشار بوش في خطاب شديدة اللهجة إلى “الفظائع والجرائم” التي ترتكبها الحكومة السودانية. وعلق بوش فيه كلمته على تعيين المنسق بقوله أنه تم تعيينه “لضمان وصول المساعدات الأمريكية إلى مستحقيها و محتاجيها, لا إلى أولئك الذين يستمرون في نهب و تخريب و تدمير الأرض المنكوبة”
“قانون السلام في السودان” والنفط
و تلا ذلك قيام الكونغرس يوم 18 يونيو (حزيران) الماضي بالموافقة على قانون “السلام في السودان”, والذي خول الرئيس الأمريكي تمويل الانفصاليين في الجنوب بعشرة ملايين دولار و دعم مباحثات السلام. ولا يمكن لعاقل أن يتصور كيف سيؤدي تمويل الانفصاليين إلى “دعم محادثات السلام”. ولكن لا غرابة, فهو نفس المنطق الذي تستخدمه أمريكا في دعمها لإسرائيل, إنه “لدعم مسيرة السلام في الشرق الأوسط”!
وقد صوت الكونغرس 422 إلى 2 “لإدانة انتهاك حقوق الإنسان في السودان و الشركات العاملة في السودان.” ونظراً لعدم وجود مشروع مماثل في مجلس الشيوخ, فإن على مجلس الشيوخ الموافقة على هذا القانون بشكل روتيني. وقد عارض القانون كل من جيف فليك من ولاية أريزونا و رون بول من ولاية تكساس.
وقد بدأ مشروع القانون الذي تم تقديمه في شهر مارس (آذار) الماضي بذكر 15 “حقيقة” تضمنت سردأ للمبادئ الأمريكية فيما يتعلق بالسودان. و أدان القانون انتهاك حقوق الإنسان من قبل كافة أطراف النزاع, وخاصة الحكومة السودانية. كما أدان انتشار العبودية وتجارة العبيد في السودان والتي تتم تحت أنظار الحكومة. وطالب بحل الصراع سلمياً ووفقاً لاتفاق نيروبي الذي تم في عام 1994. و اقر القانون مشروعاً يقضي بقيام الرئيس الأمريكي برسم خطة بديلة لتوزيع المساعدات لجبال النوبة ومنطقتي أعالي النيل والنيل الأزرق في حالة قيام الحكومة السودانية بمنع هذه المساعدات.
وقد تضمن القانون فقرة تمنع الشركات العاملة في السودان من بيع أسهمها في الأسواق المالية الأمريكية. و أشار عضو الكونغرس توم لانتوس, أحد كبار المؤيدين للقرار أنه “لا يمكن للشركات, خاصة شركات النفط, جمع رؤوس المال في أمريكا لاستخدامها في قتل الشعب السوداني.” كما ذكر ليونارد بوسويل, مندوب ولاية أيوا في الكونغرس: “أنه نفط ممزوج بالدم” وطالب بتشديد العقوبات على الشركات النفطية العالمة في السودان لسماحها للطائرات الحكومية باستخدام مدرجاتها الخاصة لقصف المدنيين في الجنوب.
وطالبت هذه الفقرة جميع الشركات العاملة في السودان, و التي تستخدم الأسواق المالية الأمريكية, بتقديم شرح كامل لعملياتها في السودان إلى “مصلحة الأسهم والتبادل الفدرالية” للتأكد من خلو عملياتها من انتهاكات لحقوق الإنسان في السودان.
وقد ألحق هذه الفقرة ب”قانون السلام في السودان” النائب سبنسر باخوس المسيحي المتعصب من ولاية ألاباما, المشهورة بقوانينها الغريبة. وعلل باخوس ضرورة إضافة هذه الفقرة للقانون بأن حكومة السودان ” تستخدم عائدات النفط, ليس لمساعدة شعب السودان وإنما لشراء الدبابات والطائرات لقصفه” و استمر قائلاً ” ونحن لا يمكننا أن نسكت ونتفرج على هذا الفعل”
وأشار مساعد لباخوس أن هذه الإضافة استهدفت خمسة شركات بالتحديد وهي الصينية الوطنية للبترول, و لوندين السويدية , و تاليسمان الكندية, و توتال فينا الفرنسية, وبتروناس الماليزية. و أشار باخوس إلى مقال نشرته جريدة “واشنطن بوست” وترجمت جزء منه جريدة “الشرق الأوسط” والذي أكد على العلاقة بين النفط والحرب في السودان, مشيراُ إلى أن “الحرب تتبع النفط” و أن النفط مكن الحكومة السودانية من توسيع دائرة الحرب.
الجدير بالذكر أن هذه الفقرة قد أضيفت في اللحظة الأخيرة وكانت مفاجأة للجميع بما في ذلك البيت البيض.
ردود الفعل
لم يلق “قانون السلام في السودان” ردود فعل قوية كالتي ولدتها الفقرة التي أضافها باخوس. فقد أهملت وكالات الأنباء العالمية وكبار الصحف العالمية محتويات القانون الأساسية وركزت على فقرة معاقبة شركات النفط العالمة في السودان. أما ردود الفعل على القانون الأساسي فقد انحصرت في كتابات متفرقة ركزت على تناقض السياسة الأمريكية في السودان, ودعم المتمردين الذي يقتلون الأبرياء, و التركيز على الجانب الديني للخلاف.
أما فقرة باخوس فقد أدت إلى ردود فعل محلية وعالمية بدأت بالبيت الأبيض وانتهت في بكين!
فقد انتقد البيت الأبيض ووزارة الخارجية هذه الفقرة واستعجبوا من موافقة الكونغرس عليها.
فقد أعلن المتحدث باسم البيت الأبيض, فيليب ريكر, أن لدى البيت الأبيض تحفظات على القرار, ولكنه أكد أن البيت الأبيض “يدعم بشكل عام أهداف القرار”. و اشار المتحدث أن القانون يمثل تدخلاً لا يمكن قبوله في الأسواق المالية الأمريكية لما في ذلك من أخطار على الأسواق المالية الأمريكية والعالمية, مما يهدد استقلالية هذه الأسواق.
و أشارت وزارة الخارجية الأمريكية في رد رسمي على القانون بأنه تدخل من الكونغرس في شؤون الأسواق المالية, وهو أمر غير مألوف. ثم أعلنت عن إرسال 40 ألف طن من المواد الغذائية للسودان لمنع حصول مجاعة بسبب نقصه المواد الغذائية في الشمال. و استندت الوزارة إلى بيانات برنامج الغذاء العالمي التابع للولايات المتحدة لتوضيح حجم الكارثة حيث ذكرت أن إقليمي دارفور و كوردفان سيعانيان من مجاعة, و أن أكثر من 420 ألف شخص مهددين بالخطر. كما أشارت إلى دراسة تمت مؤخراً توضح أن 52% من سكان إقليم دارفور يعانون من تقص التغذية.
وقد تباينت ردود فعل شركات النفط العالمة في السودان على قرارا الكونغرس. فقد أعلنت شركة لوندين السويدية في تصريح رسمي معارضتها للقانون وقالت ” إن معاقبة السودان بعقوبات اقتصادية إضافية في هذه المرحلة المهمة من تاريخه قد يؤدي إلى نتائج مأساوية لكل أهله.” أما شركة تاليسمان الكندية فقد أعلنت عن انسحابها التام من السودان عن طريق بيع حصتها في شركة النيل الكبرى للبترول. وسوغت شركة تاليسمان موقفها بأنها لا تستطيع الاستغناء عن الأسواق المالية الأمريكية التي تمول 20% من عملياتها في شتى أنحاء العالم.
و في تحول مفاجئ, أعلنت شركة تاليسمان في اليوم التالي أنها ستشتري شركة لوندين السويدية, الأمر الذي يعني خروج شركة لوندين من السودان أيضاً!
نتائج القانون
على الرغم من تأييد البيت الأبيض للقانون بشكله العام, إلا أن إضافة فكرة معاقبة شركات النفط ستؤدي إلى قيام الرئيس الأمريكي باستخدام حق الفيتو وتعطيل هذا القانون. ويناء على القوانين الأمريكية, فإنه لا يمكن للرئيس أن يوافق على جزء من القانون و يرفض جزءاً آخر, لذلك فإنه سيتم رفض القانون كلل. و إذا حصل ذلك فإنه من المتوقع أن يقوم أعضاء الكونغرس بتعديل هذا القانون وحذف الفقرة المتعلقة بمعاقبة الشركات العالمة في السودان, ثم التصويت عليه مرة أخرى.
ولن يؤد خروج شركتي تاليسمان ولوندين من السودان إلى توقف ضخ النفط أو وقف عمليات الاستكشاف والتنقيب لأن هناك العديد من الشركات, وخاصة الخاصة, التي لا علاقة لها بالأسواق المالية الأمريكية والتي لن تتأثر بهذا القانون حتى لو وافق الرئيس الأمريكي عليه كما هو. وسيشكل انسحاب شركتي تاليسمان ولوندين فرصة ذهبية للعديد من الشركات وخاصة الماليزية و الصينية والإيرانية. ومن المتوقع أن تنسحب شركة النفط الصينية الوطنية من الأسواق المالية الأمريكية و تضع كل ثقلها لشراء حصص تاليسمان ولوندين. و إذا لم تتمكن الشركة من الانسحاب من الأسواق المالية الأمريكية فإنها ستقوم بإنشاء شركة صينية مستقلة لشراء هذه الحصص. و سيتفق ذلك مع خطة الشركة بزيادة إنتاجها من الحقول الأجنبية من 5 ملايين طن في العام المضي إلى 15 مليون طن في عام 2005. ونظراً لزيادة اعتماد الصين على واردات النفط, فإنه من المتوقع أن تضغط الحكومة الصينية على واشنطن لحماية مصالح الصين في السودان.
وبذلك فإن اليمين المسيحي, و المعروف بعدائه للصين, قد وقع في شر أعماله و أهدى الصين هدية لا تقدر بثمن! فالصين تحاول تقليد اليابان عن طريق نشر شركاتها النفطية في شتى أنحاء العالم كجزء من استراتيجية طويلة المدى لإمداد الصين بالطاقة. ورغم وجود الشركات الصينية في العديد من الدول المنتجة للنفط, إلا أن السودان هي جائزة الصين الكبرى بسبب النجاح الذي حققته شركتها هناك. (يتبع في الحلقة القادمة)
?I was more than happy to seek out this internet-site.I wished to thanks on your time for this glorious read!! I positively enjoying each little little bit of it and I have you bookmarked to take a look at new stuff you blog post. http://hellowh983mm.com