النفط في السودان: دم ودموع!

أنس بن فيصل الحجي
نشر هذا المقال في عام 1999
يقول أهل الشام “جاءت الحزينة لتفرح, فما وجدت لها مطرح” وهذه حال السودان مع النفط! لقد انتقل السودان في عصره الحديث من مأساة إلى مأساة حتى كادت هذه المآسي أن تستخدم في التأريخ للسودان بدلاً من الأيام والشهور. و ما أن بزغ بصيص من النور في الأفق البعيد, واستبشر السودانيون بانحسار ليلهم الذي طال, تحول ذلك البصيص إلى برق خطف الأبصار وعاد الظلام من جديد! ولم يكن ذلك البصيص إلى “نعمة” النفط, ولم يك ذاك البرق إلى “نقمة” النفط!
لك الله يا سودان! فرغم الأسى و الفقر, فتحت قلبك الكبير و استقبلت مئات الألوف من اللاجئين حتى أصبحت أكبر مأوى للاجئين في العالم, ولكن ضاق صدرك ببعض أبناءك فأودعتهم في السجون! و رغم ضيق ذات اليد, فتحت جامعاتك لأبناء الدول العربية, في الوقت الذي اضطر فيه العديد من أبناءك للدراسة في جامعات الدول الأخرى, أما الذين لم يحالفهم الحظ فقد اضطروا للعمل كسائقي تاكسي في مانهاتن!
ولعل أعجب ما في الأمر أن قدرتك النفطية محدودة, ومع ذلك يصر وزير نفطك على أن هدفه هو “أن يصبح السودان أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم”! عندما تختلط الأحلام بالحقيقة, تضيع الحقيقة وتبقى الأحلام. وهل يمكن التخطيط لمستقبل النفط في السودان بناء على أحلام؟
إن الحقيقة مرة, والحقيقة أن مستقبل النفط فيك رهينة الحرب الأهلية, والوضع السياسي و الاقتصادي, و العقوبات الاقتصادية, و الأهم من ذلك كله, رهينة لعقلية مسئوليك الذين يعتقدون أنك ستتحول “إلى أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم”, وكأن النفط هو الدواء السحري لكل آلامك. ويبدوا أن الأمر أعمق من ذلك, لأن فكر مسؤوليك أصبح رهينة نفطك, فأصبحوا يسوغون فشلهم السياسي والاقتصادي ب”المؤامرات العالمية الكبرى للسيطرة على ثرواتك النفطية”.
ورغم أنك في وضع لا يحسدك عليه أحد, ورغم الأسى والفقر والجوع, حسدتك أمريكا, أغنى دولة في العالم, فقررت قصم ظهرك, و إغلاق حقول النفط عن طريق دعم المتمردين من جهة, وإجبار شركات النفط العالمية على مغادرتك. لقد نجح اليمين المسيحي الأمريكي, الذي عاداك منذ سنين, في محاولاته, ولكنه وقع ضحية حقده الأعمى لدرجة أن المبالغ الذي خصصها لدعم المتمردين لا تكفي لشراء حتى طائرة واحدة. أما محاولة إجبار الشركات على مغادرة السودان, فقد أضيفت في اللحظة الأخيرة كملحق لقانون “السلام في السودان”, الذي أقره الكونغرس الأمريكي مؤخراً. وقام بذلك عضو مغمور في الكونغرس من ولاية ألاباما, المشهورة في إصدار أغرب القوانين في تاريخ الولايات المتحدة. و لكن لا غرابة, فالتشابه بين ألاباما وجنوب السودان كبير! فكلاهما في أقصى الجنوب, وكلاهما أكثر الولايات تخلفاً, وكلاهما تغطيه الغابات, و الأهم من ذلك كله, أن كمية النفط في ألاباما قريبة من كمية النفط في جنوب السودان. ولاشك أن هناك تشابه آخر, فأهل شمال السودان لا يفهمون لغة أهل الجنوب, تماماً كما في أمريكا حيث لا يفهم سكان الولايات الأخرى لهجة سكان ألاباما! ولكن يبدو أن أذكى أهل ألاباما فهم لغة أهل الشمال, وأصبح عضوا في الكونغرس, واستطاع أن يضيف فقرة معاقبة شركات النفط العاملة في السودان إلى القانون المذكور.
وقد ساند هذا الألابامي عضو آخر من ولاية نيوجيرسي الذي ألقى خطاباً في الكونغرس استنتجت منه أن رائحة نفط السودان أطيب منه, و لونه أفتح من لون قلبه المملوء بحقد عجيب. فقد قارن في خطابه بين حكومة السودان و هتلر, فقال “إن حكومة الجبهة الإسلامية عقبة في وجه السلام, كما هي الحال مع هتلر في الحرب العالمية الثانية. لذلك يجب استئصالهم من الخرطوم”. وأصر في خطابه على أن الخلاف في الجنوب هو خلاف بين العرب المسلمين في الشمال, والمسيحيين الأفارقة في الجنوب, لذلك لابد من دعم المسيحيين. وهاجم بشدة الأمريكيين الذين يدعون إلى الحوار مع السودان لحل أزمة الجنوب وأكد على ضرورة الحل العسكري! الجدير بالذكر أنه لو قام هذا العضو بتشبيه أي شخص أمريكي بهتلر, لتعرض هذا العضو للمحاكمة والمساءلة, وربما أجبر على الاستقالة.
لقد قامت الولايات المتحدة بمعاداة العديد من البلاد, كما فرضت عقوبات اقتصادية على العديد من الدول النفطية بما في ذلك السودان, إلا أن العداء للسودان يختلف عن الدول الأخرى. فعداء الولايات المتحدة لكوبا أو كوريا, وحتى إيران وليبيا, عداء رسمي وليس شعبي. ولكن العداء للسودان بدأه اليمين المسيحي الذي جند أتباعه في كافة أنحاء الولايات المتحدة للضغط على الكونغرس لمعاقبة السودان, و إعطاء العداء صبغة رسمية. وقد بدا التركيز على السودان واضحاً خلال الشهرين الماضيين حيث ركز القساوسة في خطبهم الأسبوعية على الوضع في السودان. كما قامت كل المدارس المسيحية بعرض أفلام “وثائقية” عن السودان, مما حدا بالأطفال إلى تشكيل جمعيات خاصة “لإنقاذ” السودان. أما القنوات التلفزيونية الخاصة بالمنظمات التبشيرية فقد أفردت برامج كاملة للسودان. والمتتبع لهذه البرامج يستنتج شيئاُ واحداً وهو أن سبب المشاكل في السودان هم العرب المسلمين في الشمال. فهم يقومون بكل القتل والتشريد والاستعباد, وما جون قرنق إلا بطل مسيحي يقف في وجه الظلم والاستعباد ليحمي “معاقل النصرانية” في وجه “الزحف الإسلامي” (في الحلقة القادمة: النفط السوداني والسياسة)
Comment