الشطة و النفط: إدانة للتعليم في الخليج

هذا هو المقال الوحيد لي الذي رفض المراقب في جريدة الاقتصادية نشره..
وتم نشره في موقع قناة العربية: العربية نت
وذلك بتاريخ 27 مايو 2008
أنس بن فيصل الحجي
نكأ الدكتور عبد العزيز الخضيري، وهو أحد الكتاب السعوديين المميزين في ثقافتهم وخبرتهم، حقيقة حاولنا، كمجتمع، تخفيف آلامها بكل مالدينا من مسكنات. فمنذ أسبوعين تقريبا، نشرت له “جريدة الاقتصادية” مقالاً بعنوان “سعر برميل الشطة 6100 دولار”، أشار فيه إلى أنه مقارنة بسوائل أخرى فإن النفط مازال رخيصاً جدا، وتمنى أن يرتفع سعر النفط إلى سعر برميل “الشطة “على أقل تقدير. وذكر الدكتور أن هذه المقارنة غيرعادلة ولكنها لها دلالة معينة، وأتفق معه في هذا الأمر، خاصة أن نسبة الإنفاق على هذه السلع، تختلف عن بعضها بشكل كبير، وحاجة الناس لهذه السلع ليست كحاجتهم لمشتقات النفط.
الجرح الأول الذي نكأه الدكتور هو أن كل السوائل التي ذكرها في مقاله سوائل مصنعة، وليست مواد أوليّة كالنفط. وإذا كانت صناعة الشطة سهلة للغاية، فلماذا لانصنعها داخلياً، ولماذا نستوردها؟ الجرح هو أن مشكلة دول الخليج ليست في أسعار النفط ولكن في مواردها البشرية التي عجزت خلال العقود الثلاثة الماضية عن تنويع مصادر الدخل، حيث بقي الاقتصاد ريعياً يعتمد على صادرات النفط ومشتقاته، بما في ذلك البتروكيماويات. كما بقي النمو الاقتصادي، ونمو القطاع الخاص تحديداً، مرتبطاً بالقطاع العام و الإنفاق الحكومي. وعند الحديث عن هذا الجرح فإن الجميع متهم، وأبرز المتهمين هو نظام التعليم في المنطقة. وإذا كانت هناك رؤى جديدة في الجامعات فإن هذه الرؤى لن تطبق إلا إذا كان مستوى التعليم الابتدائي قادرا على بناء قادة الغد. وإذا نظرنا إلى التعليم الابتدائي بشقيه العام والخاص لرأينا العجب العجاب. هذا الجرح لن يندمل بارتفاع أسعار النفط، حتى لو أصبح النفط من أغلى السوائل على الإطلاق.
قضيت الشهور الماضية متنقلاً بين المدن الخليجية لإنجاز أعمال مختلفة بعضها مرتبط بالتعليم الثانوي و الجامعي، وها أنا أعود إلى جامعتي الأمريكية مذهولاً مما رأيت. لقد كنت متفائلاً بمستقبل المنطقة من خلال الرؤى الجديدة التي أعلن عنها في قطاعات مختلفة، و لكنني الآن أقل تفاؤلاً. فلا يمكن لأصحاب الرؤى النيرة والمتقدمة تطبيقها بأدوات وعقول عربية بواقعها الحالي! الأمثلة التي جمعهتا كثيرة، ولكن أكتفي بثلاثة أمثلة لي ارتباط وثيق بها.
المثال الأول هو طالبة ماجستير تتصل هنا وهناك بحثا عن مدرّسة عربية تساعدها في إعداد بحث الماجستير. تبين فيما بعد أن الطالبة مستعدة لدفع مبلغ معين لمن يكتب لها رسالة الماجستير. هذه القصة سمعت مثلها مرارا، ولكن القصة التي ذكرتها أعرف أطرافها. المشكلة ليست في الطالبة، ولكن في نظام التعليم الذي أوجد هذه الثقافة، و في الجامعة التي تمنح رسائل الماجستير بدون تمحيص، وهنا لن أخوض في الحلال و الحرام في هذا الموضوع، أو حتى في أخلاقيات البحث والدراسة.
المثال الثاني لطالب سنة أخيرة في الجامعة يطلب مساعدة في بحثه. تحمست لمساعدته، رغم عدم معرفة سابقة به، كوني أدرك أنني أستطيع أن أقدم شيئاً، و لاقتناعي أنه طالما سأل هنا وهناك فإنه جاد في العمل لإنهاء البحث. بعد حوالي خمسة دقائق من المكالمة تبين لي أن يبحث عن بحث لي أو لشخص آخر يقوم بتغيير عنوانه ثم يقدمه على أنه بحثه. سمعت قصصاً كثيرة من هذا النوع، ويمكن للطلاب شراء البحوث من عارضة الطريق، في وسط الرياض. مرة أخرى، المشكلة ليست في هذا الطالب، فهو ضحية نظام التعليم بكافة مراحله، والجامعة التي ينتمي إليها.
المثال الثالث يتعلق بطلاب جامعة سعودية مرموقة التقيت بهم و سألتهم عن الفرق بين إدارة الجامعة الجديدة والإدارة القديمة، فجاء الجواب مذهلا: الآن الدكاترة يحضرون! لذلك فلا عجب من كون جامعات المنطقة في ذيل قائمة الجامعات العالمية، ولاعجب من تبني المخلصين رؤى جديدة لإنقاذ مايمكن إنقاذه، ولكن لايمكن بناء البيت بخشب مسوّس ينهار من لاشيء.
الجرح الثاني الذي نكأه الدكتور هو موضوع “العدل”، حيث تكلم عن السعر العادل للنفط، وتمنيه لو يرتفع ليصبح سعره مثيلاً لسعرالشطة. “العدل” لايمكن أن يكون من جانب واحد، ولو تبنينا هذا المبدأ، فمن أين نبدأ و أين نقف؟ إن أغلى مافي الوجود هو الإنسان، وأغلى مافي الإنسان هو إنسانيته. سعر برميل النفط الآن يعادل الرواتب الشهرية لبعض الخدم و السائقين! عند الحديث عن “العدل”، هل أبدأ في معاملة الخدم في البيوت ورواتبهم، أم في معاملة المراجعين في إدارة الجوازات، أم في المرور، أم في المطارات؟ أو حتى شركات بيع السيارات؟ و الله إن قلبي يتفطر ألما عندما أعامل معاملة سيئة في بعض الإدارات الحكومية أو المطارات العربية بسبب سحنتي العربية حتى يكتشف الموظف أنني أمريكي، عندها تبتسم الوجوه وتنحلّ الأمور! العار عارين، عار المعاملة السيئة كوني عربي، و عار المعاملة الحسنى كوني أمريكي. المشكلة ليست في النفط، المشكلة في مواردنا البشرية!
ومادام الحديث عن العدل، هل يحق لنا أن نطالب برفع أسعار النفط إلى مستويات خيالية ونشتم الهنود على رفع سعر الأرز؟ ومادام الحديث عن العدل، فإنه الأجدى مقارنة النفط بالمصادر الأولية الأخرى، وليس الصناعية، لنجد أن الارتفاع كان متناسقاً معها، بل يتجاوز عددا منها.
ومادام الحديث عن العدل في أسعار النفط، و عن الموارد البشرية، فإنه لايمكن بناء جيل الغد إذا كان أصحاب بعض (أشدد هنا على كلمة بعض) المدارس الخاصة يمصون دم المدرس وينتهكون حقوقه بشكل ينافي الشرع والقانون، والأمثلة كثيرة، والأسماء موجودة، والشهود كثر.
القانون ينص على أنه لايمكن تجديد إقامات المدرسين بدون قيام المدرسة بتوفير تأمين صحي لهم، ومع ذلك تجددت الإقامات في بعض المدراس بدون تأمين صحي. في ظل “مص الدم” هذا، هل نتوقع من “المعصور” و”المقهور” أن يبني جيل المستقبل؟ قبل أن يتحدث خطباؤنا عن المؤامرة الصهيونية- الأمريكية لتدمير جيل المستقبل، عليهم أن ينظروا إلى الظلم الذي يطال إخواننا وأخواتنا المدرسين في بعض المدارس الخاصة، ليعرفوا السبب المباشر في تدمير هذا الجيل. إن من يرى في إنسان آخر ما يرى الصياد في فرسيته، لايمكن أن تبني مدرَسَتَه جيل المستقبل.
الجرح الثالث الذي نكأه الدكتور هو أن ارتفاع أسعار النفط بالشكل الذي تمناه لن يحقق لنا الكثير بسبب عدم وجود طاقة استيعابية لاقتصاداتنا، وهذا مرتبط أيضاً بالموارد البشرية. إن أي إضافات مالية مصيرها البنوك الأجنبية، وهي إضافات تتآكل مع الزمن بسبب انخفاض الدولار من جهة، وانخفاض أسعار الفائدة من جهة أخرى. وإذا أُنفِقَت في الداخل أكتوينا بنار التضخم. ارتفاع أسعار النفط لن يوسع الاقتصاد، ولكن الموارد البشرية الماهرة يمكنها توسيع الاقتصاد.
السعر العادل للنفط
من الصعب تعريف السعر العادل للنفط، و لكن بالتأكيد فإن هذا السعر العادل، حسب كل النظريات الاقتصادية والفلسفية، لايعتمد على أسعار السوائل الأخرى. إن استخدام السوائل الأخرى ماهو إلى نوع من العرض الطريف هدفه شرح سلوك المستهلك فقط. مهما كان السعر العادل فهناك محددات تمنع أسعار النفط من الوصول إلى مستويات سعر برميل الشطة، إلا إذا أصبح الدولار مثل العملة التركية. فنحن لايهمنا قيمة البرميل بالدولار، و لكن مايشتريه البرميل من سلع وخدمات.
خلاصة الأمر، أنا لاحب الشطة، ولاأستخدمها، ولكنني أملا سيارتي بشكل شبه يومي من محطات الرياض بالبنزين المدعوم من الحكومة السعودية، فإذا ارتفعت أسعار النفط إلى 6100 دولار للبرميل، هل سَتُبقي الحكومة أسعار البنزين على وضعها الحالي؟ أكتفي هنا، فنحن لسنا بحاجة إلى فتح جرح آخر.
رابط المقال
Comment